ومنها: الجعفران، أولهما: جعفر بن حرب، يكنى أبا الفضل. قال محمد ابن يزداد: كان جعفر بن حرب واحد دهره فى العلم والصدق والورع والزهد والعبادة، له كتب كثيرة فى الجلي من لكلام والدقيق. وبلغ من زهده في آخر عمره، أن ترك ضياعه وماله وكل ما ملك، وتعرى وجلس فى الماء في بعض الأنهار، حتى مر به بعض أصحابه، وكساه قميصا. وإنما فعل ذلك لأن أباه كان من أصحاب السلطان. واعتزل الناس في آخر عمره، وترك الكلام في الدقيق، وأقبل على التصنيف في الجلي الواضح، مثل كتاب: الايضاح، ونصيحة العامة، والمسترشد، والمتعلم والاصول الخمسة، وما أشبه ذلك، وكان ينسخ ذلك، ويدفعه الى امرأة، ويأمرها أن تبيعه بكل ما يطلب منها، ويشترى منها الكاغد بقدر ما يحتاج إليه، ويشترى بباقى ذلك قوت نفسه وعياله، كان ذلك الى أن توفى رحمه الله تعالى. قال أبو القسم «2» عن أبي الحسين الخياط قال: حضر جعفر مجلس الواثق للمناظرة، فحضر وقت الصلاة، فقاموا لها، وتقدم الواثق وصلى بهم، وتنحى جعفر، فنزع خفه وصلى وحده، وكان أقربهم إليه يحيى بن كامل، فجعلت الدموع تسيل من عينيه، خوفا على جعفر من القتل. قال: ثم لبس جعفر خفه، وعاد الى المجلس، وأطرق. ثم أخذوا فى المناظرة، فلما خرجوا، قال له القاضي أحمد بن أبي داود: «إن هذا لا يحتملك على هذا الفعل، فان عزمت عليه، فلا تحضر مجلسه». فقال جعفر: «ما أريد الحضور، لو لا أنك تحملني عليه، فلما كان المجلس الثانى، نظر الواثق، ثم قال «أين الشيخ الصالح؟».
فقال ابن أبي دواد: «إن به السل، وهو يحتاج الى أن يتكئ ويضطجع» قال الواثق: «فذاك».
قيل: وجمع المأمون بين أبي الهذيل وبين زاذان بخت الثنوي، فجرت بينهما مناظرة. قال جعفر: «فبلغني المجلس لأني لم أحضر، فصرت الى زاذان بخت، فدخلت على شيخ له هيئة وجمال، فجلست إليه، وأعدت عليه المجلس، فقال: «المجلس كما بلغك، إلا أن المجلس لكم والرئيس أمامكم، وفي دون هذا، يحق الحصر وتغرب الحجة».
فقلت: فأنا أسألك عن المسألة التي سألك عنها أبو لهذيل حتى تجيبني.
فقال لي: «قبل كلى شيء، ينبغي للعاقل أن ينصف في القول، كما يجب عليه أن يحسن في الفعل». فقلت له: «صدقت، فخبرني من وعظك بهذه الموعظة: النور فهو مستغنى عنها، لأنه لا خير فى العالم إلا منه، ولا يكون منه الشر البتة، أما الظلمة فلا يكون منها الخير أبدا، وهي مطبوعة على الشر، فلا معنى لهذا الوعظ» قال: ثم قال لي: «أنت غافل عما عليك في هذا الباب إن من مذهبك، أن الله تعالى قد وعظ قوما، يعلم أنهم لا يتعظون، ويأمرهم بالخير، ويعلم أنهم لا يفعلون، وأرسل إليهم ويعلم أنهم يكذبون، فليس بمستنكر أن أعظ من لا يقبل الوعظ، ولا يكون منه الخير». قال جعفر: «بل أنت غافل، لأنك لا تعلم كيف قولنا، لأنا تقول: إن الله قد أقدر، من أمره بالخير، عليه. فهل تقول في الظلمة، أنها تفعل الاقدار على الخير؟» فقال:
«أوليس من مذهبكم، أن الكافر لا يقدر أن يؤمن، والمؤمن لا يقدر أن يكفر؟» قال جعفر: «ليس هذا من مذهبنا، ومن قال بهذا من أمتنا، فهو شر حالا منك، عندنا، فانقطع وقمت».
Halaman 63