لهم، ويصوموا ويكون ذلك لاستحقاقهم بربوبيتهم في أنفسهم، أو للتقريب زلفى، فهي عبادة حقيقية على الوجهين.
وعلى كل من الاحتمالين على أني ذكرت مكررا أنهم عاندوا الرسل، وكذبوهم، واستهزؤا بهم، وقالوا أيضا: لا طاقة لنا بعبادة الله، وإنما نعبد الأصنام لأن عبادتهم مقدورة لنا، وهم يقربونا إلى الله زلفى، ولقد نقلت رواية مشتملة على ذلك المعنى في مقام آخر. فالفرق بين الأمرين أوضح مما يرى رأي العين.
فبحق من شق لك السمع والبصر، وسلطك على طوائف من الأعراب والحضر، أن توجه ذهنك الوقاد، وفكرك النقاد، صافيا عن ملاحظة العصبية والعناد، وتجعل مناظرتنا كأنها حين حلولنا في المقابر، وانصرفنا عن مرارة الدنيا، طالبين للنعيم الفاخر، وحضورنا يوم فصل القضاء بين يدي جبار الأرض والسماء، وكأن الملائكة بيننا شهود، وقد حضرنا في اليوم الموعود، وقد فارقنا الأموال والأولاد، وانقطعنا إلى رب العباد.
اللهم إجمع بيننا بالحق، واعصمنا عن الميل إلى رضا الخلق.
الباب الرابع في بناء قبو الأنبياء والأولياء وتعميرها وتعلية بنائها وتشييد أركانها لا يخفى على من أمعن النظر، وتتبع الآثار والسير، أن الأزمنة مختلفة الأحوال بالنسبة إلى جميع الأقوال والأفعال، فرب شئ كان في قديم الزمان في أعلى مراتب الاستحسان، فانعكس وصار أدنى ما يكون أو كان.
وحيث أن الشارع حكيم، وبالعباد رحيم، يراعي أحوالهم، ففي مبدأ الإسلام لما كان المعاش ضيقا، والأسعار متصاعدة في المآكل والملابس، حافظ النبي صلى الله عليه وآله وسلم، والصحابة في أيامهم على المآكل الجشبة، والملابس الخشنة أو الخلقة، لئلا تنكسر قلوب الفقراء، ولتطيب نفوسهم، فأنهم إذا رأوا سيد الجميع لابسا رث اللباس، وآكلا أدنى المأكول، استقرت نفوسهم، واطمئنت قلوبهم، وارتفعت كدورتهم.
ثم لما توسعت أحوال الناس، وقوي الإسلام، ورخصت الأسعار، استعمل الأكثر من الخلفاء أحسن الملبوس، وأكلوا أطيب المأكول، وهذا التعليل مستفاد من الأخبار أيضا.
Halaman 578