فإن كان ما فعلوا من ذلك [روايات رووها عن أسلافهم، و] وراثات ورثوها عن أكابرهم، فقد قاموا بأداء الأمانة، ولم يبلغوا فضيلة من استنبط.
وإن كانوا تركوا الدّلالة على علل الأمور التي بمعرفة عللها يوصل إلى مباشرة اليقين فيها، وينتهى إلى غاية الاستبصار منها، فلم يعدوا في ذلك منزلة الظنّ بها. ولن تجدوا وصايا انبياء الله أبدا إلّا مبيّنة الأسباب، مكشوفة العلل، مضروبة معها الأمثال.
[٢ موضوع الكتاب]
فألفّت لك كتابي هذا إليك، وأنا واصف لك فيه الطباع التي ركب عليها الخلق، وفطرت عليها البرايا كلّهم، فهم فيها مستوون، وإلى وجودها في أنفسهم مضطرّون، وفي المعرفة بما يتولّد عنها متّفقون.
ثمّ مبيّن لك كيف تفترق بهم الحالات، وتفاوت بهم المنازل، وما العلل التي يوجب بعضها بعضا، وما الشيء الذي يكون سببا لغيره، متى كان الأوّل كان ما بعده، وما السّبب الذي لا يكون الثّاني فيه إلا بالأوّل، وربّما كان الأول ولم يكن الثاني. وفرق ما بين الطّبع الأول وبين الاكتساب والعادة التي تصير طبعا ثانيا. ولم اختلف ذلك؟ وكيف دواعي قلوب الناس، وما منها يمتنعون عنه، وما منها لا يمتنعون منه. وحتى تؤنس بعد الوحشة، وتسكن بعد النّفار؟ وكيف يتأتّى لينقض ما فيهم من الطباع المذمومة حتّى تصرف إلى الشّيم المحمودة؟ وراسم لك في ذلك أصولا، ومبيّن لك مع كلّ أصل منها علّته وسببه.
وقد علمت أنّ في كثير من الحقّ مشبّهات لا تستبان إلّا بعد النظر، وهناك يختل الشّيطان أهل الغفلة، وذاك أنّه لا يجد سبيلا إلى اختداعهم عن الأمور الظاهرة.
فلم أدع من تلك المواضع الخفيّة موضعا إلّا أقمت لك بازاء كلّ شبهة منه
1 / 69