فلمّا حزت المؤانسة، وتقلّبت من فضلك في صنوف النّعمة، وزاد بصري من مواهبك في السّرور والحبرة، أردت خبرة المشاهدة، فبلوت أخلاقك، وامتحنت شيمك، وعجمت مذاهبك على حين غفلاتك، وفي الأوقات التي يقلّ فيها تحفّظك، أراعي حركاتك، وأراقب مخارج أمرك ونهيك، فأرى [من] استصغارك لعظيم النّعم التي تنعم بها، واستكثارك لقليل الشّكر من شاكريك، ما أعرف به [و] بما قد بلوت من غيرك، وما قد شهدت لي به التّجارب، أنّ ذلك منك طبع غير تكلّف.
هيهات! ما يكاد ذو التكلّف أن يخفى على أهل الغباوة، فكيف على مثلي من المتصفّحين. فزادتني المؤانسة فيك رغبة، وطول العشرة لك محبّة، وامتحاني أفاعيلك لك تفضيلا، وبطاعتك دينونة.
وكان من تمام شكري لربّي وليّ كلّ نعمة، والمبتدىء بكلّ إحسان، الشكر لك والقيام بمكافأتك بما أمكن من قول وفعل، لأنّ الله ﵎ نظم الشّكر له بالشّكر لذي النّعمة من خلقه، وأبى أن يقبلهما إلّا معا، لأنّ أحدهما دليل على الآخر، وموصول به. فمن ضيّع شكر ذي نعمة من الخلق فأمر الله ضيّع، وبشاهده استخف.
ولقد جاء بذلك الخبر عن الطّاهر الصادق ﷺ، فقال ﷺ «من لم يشكر للناس لم يشكر لله» .
ولعمري إنّ ذلك لموجود في الفطرة، قائم في العقل: أنّ من كفر نعم الخلق كان لنعم الله أكفر، لأنّ الخلق يعطى بعضهم بعضا بالكلفة والمشقّة، وثقل العطية على القلوب، والله يعطي بلا كلفة. ولهذه العلّة جمع بين الشّكر له والشكر لذوي النّعم من خلقه.
فلما وجبت عليّ الحجّة بشكرك،! وقطع عذري في مكافأتك، اعترفت بالتقصير عن تقصيّ ذلك، إلّا أنّي بسطت لساني بتقريظك ونشر محاسنك.
موصول ذلك منّي عند السامعين بالاعتراف بالعجز عن إحصائها.
1 / 67