ولم تستطع إمساك دموعها، ثم استأنف زوجها الحديث قائلا: «ثم تذكرت ما قاله لي فلم أستنتج شيئا صريحا لأني لم أتأكد إلا من قوله، وأنا ملق بنفسي إلى النار: «لا، لا تقتل نفسك، فإن سيدتي سلمى حية.»
وكان السيف مسلولا بيدي، وكان عليه ثياب السودانيين والسيف بيده، فظننته آتيا لقتلي فضربته ضربة أظنها كانت القاضية، ولم أسمع كلماته إلا بعد أن هويت بالسيف على رأسه، فلم يعد يمكنني إمساك يدي، فالتفت إليه فرأيته مضرجا بدمائه، فإذا هو سعيد، وا لهفي عليه! فأسفت وندمت حيث لا ينفع الندم، وكان بودي أن أتحرى أمره، لعل فيه رمقا فحال العدو بيننا. لقد ترجح لي أنك على قيد الحياة، ولكني لم أعلم أين مقرك، ولا كيف أصل إلى معرفته، وكنت قد تحققت أنك لست في مصر أو في سوريا، ولا فيما مررت به من بلاد السودان، فوقعت في حيرة، وأسفت لأني لم أمت قبل مجيء سعيد بذلك الخبر، إذ أصبحت بعده في اضطراب عظيم، فحدثتني نفسي أن أتجول في الدنيا كمن زهد فيها، لعل الله يجمعني بك، فسافرت إلى بلاد الحبش وبلاد العرب وكل من رآني يحسبني درويشا، وقضيت في تلك السياحة تسع سنوات حتى سقم جسمي من الحزن والتعب، فأشفقت أن أموت قبل أن أراك فقلت في نفسي: لأذهبن قبل موتي إلى البلاد التي أخذتك منها لأشاهد الأماكن التي قضيت فيها أيامك الأولى.
فسرت على سواحل سوريا حتى التقيت بحبيبي غريب أمس الأول، بالقرب من صور على الحالة التي شاهدني عليها، ودار ما دار بيني وبينه، وجاء بي إلى هنا، ولا تعجبي لما يظهر علي من دلائل العجز والشيخوخة المبكرة، فإن الأهوال التي قاسيتها قد أنهكت جسمي وشيبتني قبل الأوان.» •••
كل ذلك وغريب في ذهول تام، حتى لم يكد يصدق أنه في يقظة ، وتعجب لغرابة هذا الاتفاق، وكيف أن نجاته من الموت في صحراء بني سويف كانت على يد والده الحقيقي وهو لا يعلم.
التفت غريب إلى والدته قائلا: «كيف استطعت أن تحجبي عني هذا الأمر كل هذه السنين؟» فقالت: «يا ولدي حجبته في أول الأمر لسببين؛ أولهما: أنني لم أر فائدة من إطلاعك على وفاة أبيك في مذبحة القلعة؛ لأننا كنا نظن أنه ذبح في جملة من ذبح هناك، وثانيهما: أني كنت أود كتمان أمري عن الناس كافة، حتى عن الأمير بشير، فهو لم يعلم ذلك إلا بعد عودته من مصر، وقد كان ذلك رغم إرادتي. أما الرجلان الوحيدان اللذان كانا يعلمان السر، فهما خادمنا المرحوم سعيد ورئيس الدير.
وأما بعد أن علمت بوجود والدك على قيد الحياة في مصر، فلم أخبرك خوفا من ألا يسمح القدر بوصوله إلينا، فأكون قد سببت لك حزنا بلا جدوى، فتركتك على اعتقادك بأنك من أولاد الأمير بشير، على أمل أننا إذا ظفرنا بوالدك أخبرناك بالحقيقة وإلا بقي الأمر مكتوما عنك، فنشكر الله القادر على كل شيء لفضله وكرمه، فقد رد ضالتنا وجمعنا بسيدنا وملاذنا، وها أنا ذا قد شرحت لك حقيقة الحال.»
فتح عكا
ظلوا في مثل هذه الأحاديث، حتى انقضى شطر من الليل وهم لا يعلمون، ولا يشعرون بميل إلى النعاس؛ إذ كانوا مستدفئين في غرفتهم يسمعون عصف الرياح والزوابع وصوت الثلوج المتساقطة، والرعود القاصفة، إلى أن قالت سلمى: «أظن أنه من المستحسن أن نذهب إلى فراشنا؛ إذ قد مضى معظم الليل ولم نشعر بالنعاس، ولن نشعر به ولو مضى كله، ولكن أجسادنا تحتاج إلى النوم، وفي صباح الغد نجتمع ونتم حديثنا إن شاء الله.» فوافقها على رأيها، وذهب كل منهما إلى فراشه مطمئنا إلا أمين بك فإنه كان لا يزال مضطرب البال على ولده سليم، فبكر في الغد إلى حجرة زوجته وحده، وسألها عن حكاية ولدهما فروتها له، فأسف وبكى، فقالت له: «إني لا أزال أخفي ذلك عن غريب لئلا أحزنه بدون جدوى .» فقال لها: «حسنا فعلت، بورك فيك من زوجة حكيمة فاضلة.»
ثم استيقظ غريب، وجاء إلى والديه، وقضوا ذلك النهار في الأحاديث، وبعثت سلمى إلى رئيس الدير ليشاركهم الفرح، فسر كثيرا.
ومكث الجميع في فرح وسرور منتظرين رجوع الأمير بشير لعلمهم أنه يسر كثيرا بمشاهدة أمين بك والتقائه بزوجته وولده، فلما عاد إلى بيت الدين وعلم بالأمر تعجب لذلك الاتفاق وشاركهم الفرح، غير أنه كان مرتبك الأفكار بسبب الأحوال السياسية، وغضب الدولة العلية عليه لمساعدته الجنود المصرية، حتى كتب والي حلب إلى اللبنانيين يهددهم ويأمرهم أن يختاروا واليا عليهم غير الأمير بشير، فاتحد الدروز مع جنود الدولة، وقامت الحرب بينهم وبين نصارى لبنان سجالا، فدارت عدة مواقع في دير القمر وزحلة والمتن، وعزمت الدروز على الاجتماع في حمانا ضد الأمير ليشغلوا إبراهيم باشا عن قتال عسكر الدولة في حمص.
Halaman tidak diketahui