وأحب سعيد أن يسأله سؤالا آخر، فاعتذر بعدم إمكانه التأخر أكثر من ذلك؛ خوفا من فوات الوقت، فودعهم وسار.
أما سعيد فوقع في اضطراب من جراء ذلك الخبر، خوفا على سيده أن يكون قد قتل في جملة من قتل، فبقي سائرا مدة طويلة وهو صامت لا ينبس ببنت شفة، فأدرك رفاقه ذلك فسألوه عن سبب سكوته، فقال: «إني أتأمل هذه الصحراء الواسعة التي برغم خلوها من الماء، نشاهد فيها نباتات وأشجارا كثيرة كأنها بلاد يرويها ماء النيل!» فأجابه الرجل: «إن هذه الأشجار والأعشاب ترتوي من ماء المطر في زمن الشتاء، وتبقى معشوشبة في سائر الفصول فترعاها الجمال.»
وتملكت الهواجس سعيدا، فجعل يتخيل سيده تارة مصابا بطعنة مضرجا بدمه، وطورا غير ذلك من أنواع الموت، حتى اسودت الدنيا في عينيه.
وبينما هو في هذه التصورات، وقفت القافلة للغداء والاستراحة؛ لأن الحر كان قد اشتدت وطأته، ولم يعد المسير ممكنا، فوقف سعيد مترددا بين أن يرافق هذه القافلة كل الطريق، أو أن يتركها ويسير وحده خوفا من الإبطاء؛ لأن التجار لا يمكنهم الإسراع في سيرهم وجمالهم مثقلة بالأحمال، وهي ليست من الجمال السريعة.
توقف سعيد مع القافلة للاستراحة وتناول الطعام فأكل مما كان قد أحضره معه وشرب كمية من الماء، وظل جالسا. أما رفاقه فقد توسدوا للقيلولة. وقد خطر له أن تأخره دقيقة واحدة قد يترتب عليه موت سيده، فهب واقفا وشعر بحرارة الاهتمام تغلي في صدره، فنهض للحال وركب هجينه، وودع رفاقه معتذرا بأنه لا يستطيع الإبطاء في الطريق مثلهم، وأطلق لهجينه العنان في الصحراء منحدرا إلى الجنوب لا يلوي على شيء حتى أمسى المساء. وكان الليل لحسن حظه مقمرا، فلم يتوقف إلا في آخره، إذ شاهد خياما عن بعد فيها بعض العربان العبابدة فاقترب من المحلة، فناداه رجل قائلا بلغة تلك القبيلة: «مين الزول؟» أي: «من الرجل؟» فأجاب سعيد قائلا: «موحد»؛ أي مسلم فظنوه من قبيلتهم، فقالوا: «يا هلا الزول.» فتقدم إليهم سعيد مسلما بسلامهم المعتاد، فسألوه عن قبيلته، فقال: «إنني من قبيلة الشائقية.»
ولما أراد السفر في الصباح، سأله الشيخ عن جهة مسيره بقوله: «يا زول أنت مبحر والا مقبل؟» أي: «هل أنت سائر شمالا أم جنوبا؟» فأجابه: «لا والله مقبل يا زول.» فقال له: «تكوس شونو؟» أي: «عن أي شيء تفتش؟» فقال سعيد: «أكوس سيدا لي مرق مني في الليل الغبر»؛ أي: «أفتش عن سيدي الذي تاه مني في الليل الماضي.»
فقال الشيخ لسعيد: «هل تريد أن أرسل معك بعض رجالي كي يساعدوك في التفتيش عن سيدك؟» فقال سعيد: «إن ذلك غاية مرادي، ولكني أخشى أن يكون سيدي قد سار إلى أبي حمد؛ أي مسيرة ستة أو سبعة أيام من هنا، ولا يليق بي أن أتعب رجالك بهذا القدر.»
فقال الشيخ: «مرحبا بك يا وجه الخير فإن أسيادك من أصحاب المروءة، ولا يليق بي أن أتركك دون أن أرسل معك بعض رجالي.»
ثم نادى: «تيراب!» فحضر بدوي رقيق البنية، حاد العينين أسودهما، صغير الأنف، أسود الشعر خفيفه، صغير الفم والأذنين، منتظم الأسنان أبيضها، دقيق الساقين، ومع خفة جسمه فإنه تبدو عليه مظاهر القوة والنشاط وسرعة الحركة، فلما وقف بين يدي الشيخ قال له: «سر يا بني برفقة هذا الرجل تفتشان عن سيده، ومتى التقيتما به أوصلهما إلى قبيلتهما وتعال إلي.»
فقال البدوي: «سمعا وطاعة.» وركب هجينه وسافر في ركابه اثنان من العبيد، وسار الجميع جنوبا. أما سعيد فسر لنجاح مشروعه بمرافقة هذا البدوي؛ لأنه أصبح في مأمن من أن يضل الطريق، ولكنه خشي أن يرافقه يوما ثم يعود، فأخذ يحتال عليه ليبقى معه إلى آخر الطريق، فافتتح الحديث قائلا: «يا تيراب، ما اسم شيخكم؟» قال تيراب: «هو والدي، واسمه الشيخ أبو سرحان.» ثم بادره تيراب قائلا: «وكيف تاه منك سيدك؟» قال: «أتريد أن أقول لك الحق؟» قال: «تفضل مشكورا.»
Halaman tidak diketahui