أخذت جميلة تلوم نفسها على ما ظهر منها، لعلمها أن ذلك مما يوجه إليها الشبهة وربما أدى إلى انكشاف أمرها، ولو علمت أن الأمير بشير قد صفح عن صنيعها وصنيع زوجها لما تأثرت إلى هذا الحد، ولكنها كانت تعتقد أن انكشاف أمرها ربما أدى إلى انتقام الأمير منها، فضلا عن أنه يجلب العار عليها.
قضت جميلة الليل وهي في لجج من الهواجس والمخاوف، حتى ضاق بها المخدع فنهضت من فراشها، وكان غريب قد نام، ففتحت باب المخدع رويدا رويدا وخرجت إلى الدار، والسكوت مخيم على تلك «السراي» لا يسمع فيها إلا صوت سواقي المياه التي تسقي بساتين بيت الدين، فأخذت تنقل قدميها بكل هدوء إلى نافذة مشرفة على كروم تلك القرية وبساتينها، ثم تطلعت من تلك النافذة، فأبصرت ذلك الوادي الحافل بأشجار التوت والتين والكروم، الممتد إلى البحر المتوسط بعد أن يمر متعرجا بين جبال شامخة مكسوة بتلك الأشجار حتى ليخيل للناظر أن ظلالها أرواح علوية، قد راق لها التوسد على تلك التلال، فخافت من عيون البشر واستترت وراء الشجر. استولت الرهبة على جميلة، وأثر في نفسها ذلك المنظر العجيب، وأخذت تستعيد ما حدث لها وما سمعته من الأمير بشير، وكانت كلما ذكرته يختلج قلبها وتصطك ركبتاها، ثم تحدث نفسها باحثة عن وسيلة تصل بها إلى معرفة حقيقة الخبر، فكانت تقول تارة: «الأفضل أن أطلع الأمير بشير على حقيقة أمري وأترامى على قدميه، وأطلب السماح منه، وأستطلعه حقيقة الأمر فعسى أن يكون حبيبي لا يزال على قيد الحياة.» ثم ترجع فتقول: «لا لا، لا أظن ذلك، فقد أصبح في عالم الأموات منذ سنين.» ثم تعود فتتذكر ما كتبه إليها غريب عن الذي نجا من المماليك، فتعلل نفسها بلعل وعسى، حتى قضت ساعة في تلك الهواجس.
ثم طرق ذهنها بغتة خادمها سعيد ورئيس الدير فخفت هواجسها؛ إذ إنهما يعلمان بأسرارها ولا سيما سعيد، فعزمت أن تستدعيه في الصباح وتطلعه على حقيقة الأمر، ثم تطلب إليه أن يدعو لها الرئيس ليتفاوضوا جميعا في الأمر، وعند ذلك هان عليها كشف أمرها للأمير على يد رئيس ذلك الدير، لما تعلمه من منزلته عنده، فشعرت عندئذ كأن حجرا ثقيلا تزحزح عن صدرها وانفتح لها باب الفرج، ثم أحست بالبرد فعادت الهوينا إلى مخدعها، وباتت وقد خيل لها أنها بلغت غاية السعادة.
أما الأمير بشير، فإنه حين وجد امرأته قد انصرفت إلى فراشها منزعجة، أجل رواية الحكاية إلى وقت آخر، وسار هو كذلك إلى فراشه.
وفي الصباح بعثت زوجة الأمير تسأل عن جميلة وصحتها، فقيل لها: «إنها بخير وسلام.» ولما استيقظت جميلة بعثت غريبا يستدعي سعيدا، فلما حضر قصت عليه ما كان من أوله إلى آخره، وطلبت إليه أن يستحضر الرئيس للمفاوضة في ذلك، فلما حضر الرئيس قبلت جميلة يده، وجلس الثلاثة يتفاوضون.
فقالت جميلة: «إن قلبي أيها الأب المحترم، لم يعد يحتمل شيئا لشدة ما عانيت في الليلة الماضية، وقد شعرت أنني لا أستطيع أن أصنع شيئا إذا لم تمداني برأيكما. سمعت حديثا عن زوجي إن صدق ظني به فقد تجددت آمالي (قالت ذلك وتنهدت) وليس ذلك مجرد وهم، وإنما هناك بعض ما يؤكد هذا الظن، من ذلك : الحديث الذائع بنجاة أحد أمراء المماليك، ثم هذا المنديل الذي أتى به غريب من ذلك الرجل الذي أنقذه من الموت، فإنه منديل سيدي ومهجة فؤادي، ثم قول الأمير أمس إن الرجل الذي اختطفني لا يزال على قيد الحياة، وهذا أكبر داع عندي لانتعاش الأمل، وعليه فلم يعد علينا إلا سؤال الأمير عن قصة ذلك الرجل فإنها تزيل كل شك، وهذا يقتضي كشف أمري، ولا يصح أن أكون أنا السائلة خوفا من ذلك على حياتي، أو على شرفي؛ لأني أعلم أني فعلت وأنا صغيرة السن ما يخالف إرادة والدي، ويخالف مبدأ أسرتنا، بالاقتران برجل أجنبي؛ ولذا فإني أخاف على نفسي من العار أكثر مما أخاف عليها من الموت.» وكان الرئيس لا يعلم خبر اختطافها ولا كونها من أسرة الأمير بشير، فرأى في حديثها شيئا أبهم عليه، ولاحظ سعيد منه ذلك، فقص عليه حكاية سلمى منذ خروجها من بيت أبيها، فعجب الرئيس لذلك الاتفاق العجيب، ثم تبسم ونظر إلى جميلة بوجه ضاحك قائلا: «طيبي نفسا أيتها السيدة ولا تخافي، فإني قد تعهدت لك منذ عرفتك بأن أكون مستعدا لكل خدمة أقدر عليها يكون فيها خيرك، وأنا الآن سعيد إذ يلوح لي أني قادر بعون الله أن أقوم بهذه الخدمة، وأظنها أكبر خدمة لك.»
فتنهدت جميلة قائلة: «نعم نعم يا سيدي الأب، إنك تكون بذلك قد أنقذت نفسا من الموت، وعسى أن تكون العاقبة خيرا، ويكون ذلك الحبيب لا يزال على قيد الحياة فتكون قد أنقذت نفوسا.»
وأسرع سعيد فقبل يدي الرئيس وجثا عند قدميه قائلا: «إذا فعلت ذلك أيها السيد المحترم كنت لك عبدا إلى الأبد، فبحياة كهنوتك أعنا برأيك.»
استطلاع الحقيقة
قال الرئيس: «طيبا نفسا وقرا عينا، فإني ذاهب إلى الأمير في هذه الليلة لأني أخشى ألا أستطيع مقابلته في النهار لكثرة شواغله في هذه الأيام، لأن الأمير عباسا الذي تولى لبنان في المدة الأخيرة يسعى في استعطاف خاطر الأمير، وقد توسط الناس في أمر الصلح بينهما، ولا نرى إلا مشايخ وأمراء يدخلون مجلس الأمير ويخرجون منه، أما في المساء، فالغالب أن يكون خاليا من مثل هذه الشواغل، ومسألتنا هذه في غاية الدقة، وينبغي أن أخاطب فيها الأمير، وألزم جانب الحذر والاحتياط خوفا من غضبه؛ لأنه إذا غضب يصعب علينا استعطافه، وإذا أمر فلا يرد أمره غير الله، فيجب أن نتكل على الله الأزلي القادر على كل شيء. وقد عزمت من الآن فصاعدا أن أصلي من أجلك يا ابنتي، ومن أجل زوجك، عسى أن يجمعكما الله مرة ثانية قبل اجتماعكما في الدار الأبدية.» قال ذلك ونهض فنهضت جميلة وقبلت يديه، وفعل سعيد مثل ذلك وودعاه ورجعا.
Halaman tidak diketahui