في كتابه «غراميات الشعراء
Loves of the Poets”
وأراك تحدثني هذا الحديث العاطفي بحماسة، وفي توجيه خاص فأين مبلغ انطباقه عليك أو علي؟ وما هي علاقة كل هذا بقرني النحلة؟! - لا يا ظالمتي وحاكمتي، لا انطباق لما قلت في شيء علينا، ولكن الحديث ذو شجون، ولا يملك من يعجب بالطبيعة والنحل وبالروح العلمية الصادقة إلا أن ينوه بهيوبر ومعاونيه، وبأمثال هيوبر ومعاوينهم، كما حاولت أن أنوه ... ولنعد إلى تجاريب هيوبر الذي نعت عن جدارة «أمير النحالين»، بل إلى بعض تجاريبه: فقد عمد إلى قطع أحد قرني الملكة قرب جبهتها فلم يحدث أي تبدل في طباعها وسلوكها. ثم قطع كليهما فإذا بالملكة التي كان النحل يكرمها ويرعاها تفقد منزلتها لدى النحل، وحتى غريزة الأم زالت عنها، فبعد أن كانت تعني بفحص عيون القرص فحصا دقيقا قبل أن تضع بيضها في هذه العيون صارت لا تعبأ بها، وصارت تبيض كيفما اتفق خارج هذه العيون. وكذلك شأن تجاريبه على قرون العاملات والذكور، فإن العاملات التي تفقد قرونها تعود إلى الخلية فاقدة النشاط وسرعان ما تغادرها إلى غير عودة لا يجذبها شيء سوى الضوء الخارجي، وكذلك الحال في الذكور، فكان من المستنتج أن للقرنين أثرا حاسما في توجيه النحل داخل الخلية حيث يتضاءل النور أو يسود الظلام - إذ لا تكفي العيون البسيطة وحدها، كما أن لها أثرا في «معنوية» النحل، ويدلنا الفحص الميكروسكوبي على وجود آلاف الثقوب الحساسة الدقيقة على قرن النحلة، وقد تضاربت الآراء فيها، وهل هي مشاركة في حاسة الشم أو حاسة السمع أو في كليهما، ولكنها إجمالا صورة مدهشة محيرة لعلماء الحياة، فلا عجب إذا لم تستطع النحلة أن تحيا بدون قرنيها، فليس في الإمكان نموها ثانية كما ينمو مخ الحمامة بعد استئصاله إذا أبقيت عليها حية بالتغذية الصناعية إلى أن يتم هذا النمو وتعود إليها بتمامه جميع حواسها وغرائزها كما أوضح لنا كلود برنارد
Claude Bernard
في تجاريبه العلمية. كذلك أرجل سرطانات البحر وذيول السحالي قابلة للنمو ثانية إذا ما قطعت، ولكن هيهات حدوث ذلك لقرون النحل. وفي الرأس أعضاء أخرى هامة داخليا وخارجيا. فمن الخارج لا يفوتنا التأمل في أجزاء الفم، وهي كما ترين من فحص النماذج الميتة بالعدسة المكبرة تتألف من شفة عليا تحت سطحها الأسفل يوجد فص صغير أملس تستقر فيه أعضاء حاسة الذوق، ومن فكين خارجيين ومن فم فتحته عند قاعدتي الفكين، ومن خرطوم عبارة عن امتداد عضو مركب واقع خلف الفكين، ومن فكين داخليين يكونان بالاشتراك مع لامسي الشفة أنبوبة يعمل داخلها اللسان، ومن فكين ثالثين تتألف باتصالهما الشفة السفلى وموقعها تحت فتحة الفم ، وأخيرا من اللسان أو المذرب وهو يتصل عند جذوره بالذقن، ويمكن إخراجه وإرجاعه بواسطة عضلات خاصة، ويغطي اللسان غمد مكسو بشعيرات بعضها حساس، وفي نهاية اللسان توجد شبه ملعقة عليها شعيرات دقيقة، وعندما تجمع النحلة الرحيق أو تمتص العسل أو عندما تتناول النحلة أي شراب نجد اللسان يتحرك سريعا إلى الخلف وإلى الأمام بواسطة قضيب مطاط ممتد في وسطه، فيجمع بهذه الحركة السائل على شعيراته ويمتصه، وعندما لا تستعمل النحلة لسانها تسحبه طي فمها قليلا ثم تطوي الجزء الخارجي تحت الذقن، وبعض ضروب النحل أطول لسانا من غيرها مثل النحل القبرصي والنحل القوقازي، ومع ذلك لا يكفي طول اللسان لأن يكون النحل جماعا للعسل، بل هذه غريزة في بعض الضروب. مثال ذلك أن النحل الإيطالي أكثر نجاحا في جمع العسل من النحل القبرصي مع أن الأخير أطول لسانا منه، والنحل الكرنيولي أكثر توفيقا في ذلك من النحل القوقازي مع أن النحل الكرنيولي أقصر لسانا من الأخير. - صدقت في ملاحظتك، فقد وصفتني إحدى زميلاتي المؤدبات بطول اللسان، ولا أعرف أني نجحت يوما في جمع العسل.
الفصل السادس
الناس صنفان رئيسيان في نظرتهم بعضهم إلى بعض وبعضهم إلى المجتمع، وبين هذين الصنفين صنوف عدة متدرجة في الصفات ما بين رأس القائمة وقاعدتها: فأما الصنف الأسمى فطراز من الناس جبلتهم الطبيعة على الإيثار، وكيانهم الحيوي قائم على التفكير في المجموع يشغلون به أيما إشغال، وقد يساء إليهم من جراء ذلك مرارا، وقد يتألمون ويعانون وقد يردد حالهم:
سيعيش في هم ويشقى دائما
من عاش مشغولا بهم الناس
ولكن تكييفهم البيولوجي يبقيهم أسرى هذه النزعة الإنسانية مع عرفانهم أن جزاءهم المحقق قد يكون الجحود والطعن والاضطهاد وقلما يكون الوفاء والإنصاف، ومن بين هؤلاء ينشأ القادة والرواد، وأما الصنف الأدنى فيمثل الوصوليين الطفيليين الذين يتقنون التمسكن للتمكن، ولا هم لهم إلا الانتفاع بمواهب غيرهم دون جزاء، ولا معنى للأريحية ولا للشهامة عندهم، وغايتهم أن يغنموا دائما على حساب غيرهم دون مبالاة بأي قانون أدبي، وأن يبطشوا إذا ما تمكنوا بمن تضعهم الأقدار تحت رحمتهم، ومن بين هؤلاء الآلاف من الأفراد الذين يقلون أو يكثرون حسب دماء الشعوب، ولا يجدي فيهم علم ولا منصب، وهم أكثر المادة التي ابتعثت بالسخط العلائي وتشاؤم كثير من الفلاسفة الاجتماعيين وكفرهم بالنفس الإنسانية وسيبقون كثرة ما دام النسل البشري لا ينهض على أساس علمي حكيم.
Halaman tidak diketahui