وكان قد اشتد النزاع على كريمة، وتصبب العرق باردا من جسمها، وعرت وجهها غبرة الموت وغشي ناظريها الظلام، فنطقت بآخر جملة قائلة: أدن مني ابنتي عفيفة لأقبلها القبلة الأخيرة، فامتثل فؤاد إشارتها، وقرب بين يديها الفتاة جاعلا رأسها على صدرها، فحركت الأم شفتيها وأسلمت الروح، فارتعد فؤاد من هذا المنظر، ورجف جسمه وسال الدمع من عينيه غزيرا، ولبث مبهوتا قليلا من الزمن ينظر إلى كريمة مرة وإلى ابنتها مرة أخرى حائرا فيما يفعل، فجس يدي كريمة فإذا هما قد جمدتا فأيقن أنها ماتت حقيقة، فأغمض عينيها، وتلا سورا من الكتاب الكريم المقدس، وحمل عفيفة بين يديه نزولا على السلالم فلم يشاهده أحد، فأشار إلى سائق العربية فتقدم وجعل عفيفة في صدر العربة، وجلس أمامها وهي في حالة الإغماء وقال للسائس: بنا إلى مصر العتيقة، فانطلق يعدو بخيله سريعا.
الفصل العاشر
بعد مضي خمسة شهور من وفاة كريمة، كان في صباح يوم من شهر نوفمبر همام جالسا في فسحة الفندق الكبير المعروف بنيو أوتيل يدخن سيجارته إذ أبصر سعيدا مارا في عربة من أمام الفندق، فأشار إليه فنزل من العربة وحياه مسلما، فلما جلس قال له همام: كيف حالك؟ إني مسرور بمشاهدتك، أمن زمان أنت في القاهرة؟
قال سعيد: من يومين، وكنت عزمت على مقابلتك في هذا اليوم، فجمعني بك الاتفاق، والحمد لله على رؤيتك بخير.
قال همام: هذه المقابلة لا تعفيك من الزيارة المرسومة.
قال سعيد: واجب علي أن أزورك في محلك.
قال همام بعد أن بادله كلام الوداد والصفاء على عادة الناس: هل حضرت بإذن والدك؟ فقد بلغني أنه متغير عليك، وأنه هددك بقطع ميراثك إن جئت إلى القاهرة.
قال سعيد: أخبرتك عن الكتاب الذي أرسله إلي منذ شهرين يدعوني به إليه إن كنت تذكر ذلك.
قال: أتذكره جيدا، وكان الكتاب ردا على خطاب منك، وجهته إليه في طلب نقود فعوضا عن إرسالها أرسل إليك بعض نفثات غضبه.
قال سعيد: نعم، وفوق ذلك يهددني بقطع ميراثي إن لم أعد إليه في الحال.
Halaman tidak diketahui