قالت: إن فاسد الأخلاق يعتبر من ليس على شاكلته أبله أحمق، وبخلاف ذلك العقلاء المثقفون أصحاب المبادئ الصحيحة، فإنهم يحبون مقام كل همام أبي النفس، فيحمدون صنيع فؤاد، وأنت تذكر يا أخي أني صرفت العمر في تربيته وتثقيفه وتأصيل النبالة والشهامة فيه، فهو بعيد عن أخلاق أهل هذا الزمان الفاسدين الغاوين الطامحين إلى الشهوة، يرون المرأة فيفتنونها ويبذلونها مزيد الجهد تقربا من أهل البيوت المصونة للإغواء والإفساد، وأبى الله أن يكون فؤاد على هذا المذام، فوالله إني لأعلم من نفسي أنه أقام خمسة أشهر مع عفيفة فاتخذها شقيقة لا رفيقة، والتزم الأدب والصيانة.
قال: إذن مثله مثل إسحاق عليه السلام في حب رفقته.
قالت: شبهه بمن شئت، فالمؤكد عندي أن من شب على حب الفضيلة كان بعيدا عن الزلل، فلا يأتي الأمور المنكرة، وحسبي ما أنا عالمة من أخلاق ابني، فقد تكلمت عن هدى وخبرة، والله شهيد على قولي.
وبينما سيدة تخاطب هماما بهذا الخطاب دخل الخادم مخبرا بقدوم فؤاد مع سيدة متردية بملابس سوداء، فابتهجت سيدة بحضوره، ثم هتفت فورا بغير تدبر: أجاءت تلك اللعينة معه؟ قطع الله خبرها بين البنات، إنها كانت سبب التعب والعذاب ووقوع المشاكل والأخطار، فوالله لأنتقمن منها وأذيقنها أليم العذاب.
وما زالت سيدة تحتدم حتى وصل فؤاد، فالتزمت السكوت وكظمت الغيظ، وتقدم نحوها فؤاد ويده بيد عفيفة فقدمها مبتسما، والفتاة خافضة رأسها حياء، وقدها يخطر كالغصن، فقبلتهما وقبلاها، ثم إنها قالت لعفيفة: مرحبا بك يا عفيفة، كانت أمك من أعز صواحبي، وكنت كل مرة أنزل فيها إلى الإسكندرية أزورها فتحسن وفادتي، وأقضي الوقت رغدا برفقتها، وقد تجدد الشوق بي إليها برؤياك، فأهلا وسهلا بك، ولك عندي من الرعاية والإكرام ما يجب.
فانشرح صدر فؤاد من سماع جميل كلام أمه، وأجابت عفيفة بقولها: لك الفضل يا سيدتي والجميل الفائق بما أوليتني من النعمة، وأنا العاجزة عن القيام بواجب الشكر.
قالت سيدة: دعي الشكر والتجمل، فإني لم أفعل بعض الواجب علي، وتمام السرور عندي أني أكون لك بمنزلة الوالدة، وأنت لي بمنزلة الولد تحبيني وأحبك، وعندما نطقت سيدة بهذا الكلام أقبلت على عفيفة تقبلها في جبينها رياء كما حدثتها نفاقا، وكان همام ناظرا إلى الفتاة مبهوتا من حسنها الرائق وجمالها البديع.
فلما رأى أخته تقبلها قال في نفسه: قبلة يوداس اللعين من ألف - من قبل - من السنين، ثم إنه تقدم نحو عفيفة وقال لها: أيتها الفتاة المليحة إني مسرور بمشاهدتك، وأتمنى لك من صميم قلبي الهناء والسعادة، وأن تقيمي عندنا في الرحب والسعة، وإن سمحت لي بتقبيل يدك كما قبلت يد شقيقتي فلا يهولنك تقدم سني وبياض شعري. قال هذا ودنا منها ليفعل، فأبعدت يدها وأمالت رأسها فقبلها في جبينها قائلا: قبلت هذه المعاوضة، وإن كنت أود ألا تمني علي إلا بقبلة يدك.
قال فؤاد: أليست قبلة الجبهة أفضل من قبلة اليد؟
قال همام: لو أنها لم تسمح إلا بقبلة يدها كما طلبت منها لكانت تركتني حائرا واهما، فالشابات قلما يأذن لشاب بتقبيل يديهن، ولكنهن لا ينفرون من الكهول والطاعنين في السن، وهكذا سمحت لي بقبلة جبهتها بطيبة نفس، فكأنما شهدت لي بزوال زمن الصبا وقدوم نذر الكبر.
Halaman tidak diketahui