قالوا: نعم! نحن غرس نعمتها بدون استثناء، فمرنا بما يجب أن نؤدي به حق العبودية.
قال: الغلام المسجون الآن في سجن الملك هو ابن الملكة، وإن لم تدركوه هلك لا محالة؛ لأن الملك عازم على قتله في صباح الغد.
قال «روبير»: شرفني بهذه الخدمة يا مولاي، وأنا آتيك به هذه الليلة قبل بزوغ الفجر.
قال: شأنك وما تريد. ثم نهض الغلام، ودخل غرفته الخصوصية، ولبس لباس السواح، وأرخى له لحية بيضاء، وأسبل على أكتافه شعورا بيضاء أيضا تشابه لحيته، وأخذ بيده عكازا، وقصد لجهة السجن الذي فيه «كورش»، فوجد هناك الحرس قيام على باب السجن، فسلم ودخل بينهم فرحبوا به، وأجلسوه، ثم جاءوا بفضلات الطعام الباقي منهم فأكل، وحمد الله، وصار يأتيهم بكل نكتة ظريفة ويرقص، ويطربهم بالعبارات المضحكة حتى آنسوا به غاية الإيناس، ولما علم منهم ذلك جلس، وأخرج شمعته من جيبه وأشعلها ووضعها، وصار يلهيهم بكل ما يقدر عليه من الملح إلى أن دبت رائحة البنج في رءوسهم، وكانت الشمعة مصنوعة لمثل هذه الغاية.
وبعد برهة صاروا يتساقطون واحدا بعد واحد إلى أن ناموا جميعا، فانسل هو من بينهم، وكان واضعا في صدره سفنجة فيها بعض الأرواح المنعشة لكي لا يؤثر فيه البنج، وأخرج المفاتيح من الحارس، وفتح الباب، ودخل على «كورش»، فوجده منزويا في السجن الداخلي، وهو نائم لا يعي على شيء، فتقدم إليه وأيقظه، وقال له: لا تخف! فإني منقذك من هذا السجن فقم معي، ولا تلفظ أدنى كلمة. فلبى الغلام طلبه ونهض، وانسلا من الباب الخارجي، وقد أخرج من تحت ردائه ثوبا ألبسه له، وسارا على عجل إلى أن دخلا على «أرباسيس»، فوجداه على أحر من الجمر، ولما رأى «كورش» ضمه إلى صدره، وقبله بين عينيه، وأفرد له محلا خصوصيا في الداخل، وأوصى عليه «بركزاس»، وسلمه إلى «فانيس» الفيلسوف، وقال له: ليكن هذا تحت عهدتك يا ولدي بحيث لا يعلم به أحد من خلق الله، وتتكفل بتهذيبه، وتعليمه كل ما تقدر عليه من العلوم. ثم أخرج زجاجة وطلى جسمه، وأنزله بين الخدم إلى أن ينتهي بحث الملك، وبينما هم كذلك، وإذا «بروبير» يطرق الباب ففتحوا له، ودخل على أخويه فسألاه: أين وجهته، وكيف تأخر إلى هذا الوقت وقد ظهر الفجر؟
قال: إني بعد أن سلمت لكم سيدي «كورش»، تذكرت أن لا بد للملك من تفتيش المدينة، ولا بد أن يصل إلينا التفتيش، فأردت أن أفعل شيئا ينفي عنا ذلك، وقد حصل، وهو أني تزييت بزي الجند، وتوجهت إلى الباب، ودخلت ضمن الحراس، وأشعلت شمعة، ووضعتها في غرفة الغفير، ثم توجهت إلى الباب الثاني والثالث إلى أن انتهيت إلى السابع، وقد فتحت كل أبواب المدينة حتى إذا انتبه الحراس لا يشكون أن الفاعل قد خرج من المدينة إلى الخارج حيث إن الذي حصل في السجن حصل في الأبواب أيضا.
فتعجب «أرباسيس» من خفته، وحسن صنعه، وشكر له ذلك، وشكره أخواه أيضا.
ولما أصبح الصباح قام الملك، وأمر بأن تنصب له أحبولة على جزع ليشنق الغلام على مرأى من الناس، وبعد أن أحضروا ما لزم، توجهوا إلى السجن لإحضار الغلام فوجدوا الحراس في بكاء ونحيب خوفا على أنفسهم من غضب الملك؛ لأنهم لما أصبحوا وجدوا الأبواب مفتحة، ولم يجدوا الغلام ولا الرجل الهرم. وقد فتشوا ما أمكنهم حتى وصلوا إلى أبواب المدينة، فوجدوا الحراس هناك كذلك في ارتباك عظيم، وقبل أن يذهبوا إلى الملك جاء الجلادون بطلب الغلام، فلم يجدوه كما تقدم.
فذهبوا إلى الملك وأخبروه الخبر، ولما سمع انقلبت عيناه في أم رأسه، وغضب الغضب الشديد، وقال: لا بد أن يكون للنار في ذلك إرادة، ولا بد أن الغلام يملك بين مشرقها ومغربها، وقد عزمت على قتله وهو في بطن أمه، فلم يتيسر لي ذلك، ولقد فقدت ابنتي الوحيدة بسببه، وها أنا الآن بعد أن ظفرت به، وأردت قتله خوفا على بلاد «مادي»، وخروج الملك إلى يد الفرس أبت النار إلا تنفيذ أمرها، ولم أدر هل الأرض ابتلعته أم السماء انتشلته، ثم قال: علي «بميقرات» الراعي وزوجته، فأحضروهما. وكانت القواد والوزراء والأمراء والحاشية قد اجتمعوا، وكان منهم «أرباسيس» و«أرباغوس»، فسأل الملك الراعي وزوجته عن «كورش» فقالا: إننا لم نره بعد أن استلمه الملك، فأمر الملك بسجنهما إلى أن ينظر في جزائهما على ما فعلاه من تربية «كورش»، ثم قال مخاطبا «أرباسيس»: اعلم أيها الفيلسوف أن بلادنا من الآن فصاعدا ستصير في أيدي الفرس؛ لأن هذا الغلام سيصير ملكا عظيما إذا تهاونا في أمره، فأريد الآن أن تبحث عنه؛ لأني لو تركته لتفاقم أمره، ولصعب علينا استدراكه؛ لأني ما انتدبتك لهذا الأمر إلا لما أعلم من خبرتك بفك المعميات وقراءة الطلاسم. وغاية قصدي أن تبحث لي عن مكان هذا الغلام بكل ما تقدر عليه.
قال «أرباسيس»: نعم سأبحث، ولكن لا نفلح لو وجدناه؛ إذ ربما كان للنار فيه مأرب وغاية في استفحال أمره، فما نكون إلا أغضبناها، وعملنا ضد إرادتها، ولولا ذلك لما كانت النار تفتح له بابا للخلاص، كلما أردنا الايقاع به.
Halaman tidak diketahui