كانت الأيام الماضية تنتهي غالبا بآمال خائبة؛ وخصوصا في أثناء إقامتي في فولفورت، وكانت الأفكار التي تداهمني في الليل تستحوذ علي بقوتها الكئيبة، حتى إن الصباح كان يأتي علي وأنا منهك من معركة الليل، وعند الظهيرة أكون منهكا مثل الكلب الضال. حتى وأنا في فيينا بعيدا عن فولفورت لم يكن التفكير في البيت مريحا، أما الآن فقد عاد اليوم إلى طبيعته، وأصبحت أشتاق إلى أسابيع الصيف التي أقضيها في بيت والدي؛ تعويضا عن الشتاء والربيع البائسين.
ونجحت في كتابة روايتي الخامسة، وأنا أشعر بأن الأمور تسير بسهولة لم أجدها منذ فترة طويلة. أدركت ذلك، على نحو أكبر، عندما تسلقت إلى أعلى فرع في شجرة الكرز في يوم وصولي، فلم أصل إلى هناك منذ كسرت لي ثلاثة أضلع وأنا أحاول القيام بهذا العمل البهلواني قبل أعوام. يا له من إحساس بالحرية أن أشعر بأني أستمتع بحياتي مجددا، وأن أستيقظ في الصباح وأنا أعرف أن بمقدوري الاستمتاع باليوم! كان ذلك تغيرا جوهريا.
في الأعوام الماضية تخلت عني الرغبة في القيام بشيء في فولفورت. كنت أحبس نفسي في البيت؛ لعلمي بأن شيئا ما يمكن أن يحدث في أي لحظة. وكانت الأيام تمضي الواحد بعد الآخر، وكانت الأحداث مملة وغير متوقعة؛ لذلك لم يكن جيراني في القرية يرونني كثيرا، أما الآن فلدي ليس فقط الوقت وإنما أيضا الطاقة. كنت أتصل بإخوتي وبزملاء أبي القدامى وأخبرهم برغبتي في الحديث معهم من أجل كتاب أعمل على إتمامه.
وعادة كنا نتحدث في المساء؛ إذ كنت أزور أبي في الصباح مرة أو مرتين.
منذ اليوم الأول رأيته متزنا وهادئا ومنتبها، وكان يسألني عن حالتي وعن خطتي، وكان بصورة عامة راضيا، ولكنه - حسب قوله - كان ينتظر اللحظة المناسبة للهرب.
وقد أخبرني وكأنه يحكي عن مؤامرة: «عندها لن تراني هنا مجددا.»
ثم أسند ظهره إلى المقعد وابتسم.
كان قد فقد الكثير من وزنه، حتى إن ملابسه كانت واسعة عليه جدا؛ فقد أصبح مقاس رقبته مختلفا، ولكنه ظل يرتدي القمصان نفسها. وكان ماهرا كعادته؛ فقد كان يفتح ويغلق الزر العلوي للقميص بإصبعين بجمال غير معتاد، دون عناء ودون أن ينقطع حبل أفكاره وهو يتكلم. كان أبي يعجبني ككل، الإنسان ككل، ورأيت أنه بخير، وأن حالته المزاجية طيبة، وتذكرت القول المأثور: حسن الختام.
وإن كان استمر على ذلك لتحقق فيه ما قرأته يوما في رواية لتوماس هاردي، عندما قال عن رجل مسن: «إنه يقترب من الموت مثل القطع الزائد للخطوط المستقيمة.» فهو يتقدم مغيرا مساره ببطء شديد؛ مما يجعل من غير الواضح إذا كان والموت سيلتقيان يوما ما بالرغم من قربهما الشديد.
فقد كانت لدى أبي رغبة حقيقية في أن يعيش فترة أطول، وكان موقفه واضحا في هذه النقطة تحديدا. •••
Halaman tidak diketahui