انسحب المرض من المشهد مجددا؛ فلم تعد تظهر على أبي أي علامة من علامات القلق والتوتر التي عهدناها عليه في الأشهر الماضية، وكنت أشعر كل يوم بأنه مستريح. كان يضحك ويمازح ويتبسم في وجوه الآخرين، وكان منتبها ومراعيا لمشاعر من حوله.
كانت المشاعر تأتي من داخله بتلقائية وسرعة، ولم يبد عليه أبدا أنه هادئ بتأثير الأدوية. كان يتعامل بإيجابية مع وضعه، وكانت دعاباته تسعده، وأيضا كان يسدي النصح لكل من يسأله؛ فقد قال مثلا لفيرنر: «يمكنك تعلم الكثير مني.»
إلا أن الاضطرابات الإدراكية كانت تظهر عليه من وقت لآخر، بينما أصبحت نوبات الهلوسة أقل وطأة.
ذات مرة سأل كاتارينا: «هل رأيت أيضا الأقزام السبعة الذين مروا من هنا؟» «بالتأكيد، لقد انعطفوا عند الناصية.»
وانتهى الأمر عند هذا الحد.
وعندما كانت حدة الهذيان تزداد بشكل استثنائي، كنا نحضر إيفا، التي كانت تذهب إليه وتعانقه، فكان يهدأ وتعود الحياة إلى طبيعتها، ويضحك الجميع في اندهاش.
كان أبي يشكو كثيرا من عدم قدرته على القيام بأي شيء، ومن أنه أصبح «أحمق»، إلا أنه كان يقول في بعض الأحيان: «لم أصبح بهذه الدرجة من الغباء حتى أعجز عن عمل أي شيء نافع!»
وساعده ضعفه في مواقف عديدة على استعادة ذكرياته؛ مثل مواقف «النجاح والسعادة التي عاشها»؛ إذ كان يقول: «عندما كنت أفعل شيئا نافعا فيما مضى، كنت أسعد بذلك كثيرا. لم أكن شغوفا بالقيام بكل تلك الأعمال، لكني كنت أعرف أنها مهمة، وأنه لا يوجد أحد غيري يمكنه القيام بها بنفس الإتقان مثلي. في أي مكان كنت فيه كنت أؤدي تلك الأعمال بسرعة البرق. لم يكن ذلك جميلا على الدوام، ولكنه كان إحساسا طيبا. وأنت أيضا كنت تحب مشاركتي دائما.» «كنت أحب مشاركتك.» «أنت تضحك! لقد كنا فعلا نحب العمل معا. لو لم نكن معا لكنا مسكينين تعيسين. لم تكن مجرد أعمال يمكن أن تقرأ طريقة القيام بها من ورقة إرشادات. فقط الأعمال البسيطة يمكن أن تقرأ طريقة القيام بها من ورقة إرشادات، وليس كل الأعمال. كنت فخورا بذلك؛ كما تعلم، كانت أشياء لا يعرف جدواها سوى القليلين. ولكننا كنا نعرف ذلك. وكنت سعيدا لأني أستطيع القيام بأشياء لا يمكن القيام بها دون إمعان الفكر. مثل تلك الأشياء كنت أتولاها، ودائما أنجح في أدائها! والطريقة التي يمكن أن تدير بها الأشياء المعقدة في الاتجاه الصحيح، كانت ... كنت متخصصا في ذلك. كم كنت بارعا في معالجة الأمور! وقد رأيت بنفسك سعادتي وأنا أقوم بذلك، ما دون ذلك لم يكن لينجح أبدا. لقد شعرتم بالتأكيد بأني كنت أفعل ذلك بسرور، وأن آرائي فيما يحدث كانت جيدة. أعرف أنه لم يبق الآن الكثير من ذلك ، لم يبق الكثير، لم يعد باستطاعتي سوى القليل، تقريبا لا شيء. كانت الأعمال والأشياء المتنوعة في الماضي فعلا جيدة، لا أعرف من الذي كان يحضرها، من الذي كان يفعل ذلك كله. أظن أنك كنت مشاركا فيه، وإميل أيضا. أما أنا فقد كنت أخلع الأشياء القديمة، وأركب الجديدة في لحظة. كم كان هذا العمل جيدا! وعندما كان كل شيء يسير على ما يرام - يا إلهي! - كان ذلك يملؤني شعورا بالقوة!» جمع قبضتيه وضمهما إلى صدره، ونظر إلي مبتسما وأردف: «أتعلم؟ لم أعتقد بالضرورة أني قد أصبحت أحمق، فأنا أعرف أني قادر على إنجاز أشياء جيدة إذا بذلت جهدا. ذات مرة جاء شخص وامتدحني؛ لأني أحسنت القيام بشيء، جاء وامتدحني. كنت فخورا بقيامي بذلك؛ لأنني كنت ذكيا بما يكفي لأقول لنفسي: انتظر! لقد كان ذلك رائعا!»
وفي موقف آخر قال: «لم تكن المواقف السعيدة في حياتنا محض صدفة، بالتأكيد كان بينها مواقف خدمنا فيها الحظ، لكن لم تكن المواقف السعيدة في حياتنا محض صدفة.» ثم فرك طرف إبهامه وسبابته والوسطى من يده اليمنى وهو يقول: «كنا أكثر مهارة من الآخرين، فمم عسانا أن نشكو إذن؟!»
وبالفعل لم أشك؛ فقد أمكنني النظر إلى المستقبل بشيء من الثقة. لقد تلاشى التوتر تماما، ووجدتني أرى العلاقات بوضوح لم أعتده؛ سواء العائلية أو الخاصة أو المهنية. وبدأت فترة هدنة. عدنا لنقف على أرجلنا من جديد.
Halaman tidak diketahui