أما الأرشديوق فنظر إلى العاصفة التي حرك ساكنها هاشا باشا، وكان في استطاعته أن يهش ويبش لأن الأمة مؤيدة له. والنمسويون على بكرة أبيهم تعشقوا صراحة وفصاحة الأمير الذي برهن غير مرة في ميدان الكفاح في بلاد البوسنة أنه من نخبة أبطال الحسام كما هو من خلاصة رجال القلم، حتى إن وزارة الحربية اضطرت أن تعترف بمقدرته الفائقة وترقيه إلى رتبة فيلد مارشال وهو في سن يتمنى صاحبها وإن كان أرشديوقا أن ينال رتبة كولونيل.
وهذه كلها لم يكن يتعذر تلافيها لو أن جوهان حصر حملاته في سبيل إصلاح الجيش، ولكن طيشه ونزقه استأثرا به وأركباه مركب السياسة الخشن الخطر. فارتأى تحرير روسيا من مساوئ حكومة القيصر باتحاد النمسا وفرنسا على محاربتها. وتعرض لشئون البلقان السياسية، واتهم بسمارك بأنه يكيد لآل هبسبورغ (الأسرة المالكة في النمسا). وبهذه الأمور وغيرها أصبح خطرا يهدد سلام أوروبا العام. ولم تقف به رعونته عند هذا الحد من المغامرة والتهور، بل دفعه خرقه وحماقته إلى مخاصمة ولي العهد رودلف أعز صديق له، واستخف جهارا بالفيلد مارشال الأرشديوق ألبرت في أثناء محاورته له.
وحينئذ فرغ صبر الإمبراطور عليه، فاستدعاه إليه وخيره في أمرين: إصلاح سلوكه إصلاحا تاما أو ترك الجيش والتخلي عن منزلته الملكية. فاختار الأمر الثاني وخرج من لدن الإمبراطور ساقط الوجه خاثر النفس، وعلى الفور صدر الأمر بتجريده من رتبته العسكرية، وحذف اسمه من سجل الجيش ومنعه من دخول البلاط الملكي. ولم يهمه سقوطه من منزلته الملكية ولا حمو غضب الكبراء عليه . ولكن إخراجه من الجيش أفعم قلبه غما وأسى، ولم يدر قط بخلده أن يعاقب عقابا شديدا كهذا؛ لأن الجيش كان أعظم شيئا يعنى به على وجه الأرض، فبفصله عنه رأى الحياة عبئا ثقيلا عليه يود إراحة نفسه منه. ولما رآه أصدقاؤه على هذه الحالة نصحوا له بالصبر والتأني والإخلاد إلى الهدوء والسكينة ريثما تركد رياح الأحوال، ويسكن غضب الإمبراطور ويرق قلبه، فعمل بمشورتهم. ولما طال انتظاره وفرغ اصطباره استولى عليه اليأس والقنوط فزايل فينا وذهب إلى ضيعته قرب غمندن، وأقام يتقلب على لظى السآمة والضجر، فكان يقضي نهاره في الصيد والقنص وجانبا من ليله في الدرس والمطالعة.
ولم يلبث أن مل هذه العيشة الجافة ومال إلى طلب التسلية خارج ضيعته، فبرحها إلى فينا، وأخذ يلهو في التردد إلى المسارح والمراقص وغيرها من الملاهي. وفي ذات ليلة بينما كان في المسرح الملكي شاهد بين الممثلات فتاة رآها فريدة في عقد الغيد الحسان كأنها إحدى حور الجنان، وكان ذلك فاتحة عهد جديد له لم يعلم عنه قط شيئا من قبل. ففي كل لمحة من قسمات وجهها البديع رأى جمالا باهرا خالبا، وفي كل نظرة من عينيها الجميلتين آنس سحرا جاذبا.
وقبل أن غادر المسرح عزم على البحث عن ساحرة لبه وسالبة قلبه والسعي في إحرازها. وفي تلك الليلة نفسها عرف من هي وأين تسكن، وكانت ابنة تاجر من صغار التجار في فينا واسمها إملي ستوبل، ولها أختان كلتاهما ممثلتان نظيرها. وكان لجمالها وبراعتها في التمثيل شهرة تحدث بها جميع سكان فينا، وذاع صيتها في عواصم أوروبا.
هكذا كانت إملي ستوبل حين أسرت قلب نسيب الإمبراطور وهي خالية الذهن لا تعلم شيئا عن هذا الأمر، ولم يبال الأرشديوق بكونها وضيعة الحسب والنسب، فقد كان ساخطا أشد السخط على أهل النسب والرتب، هاجرا لمجالستهم وقاطعا علاقاته بهم. ورأى إملي أجمل جميع الفتيات اللواتي شاهدهن في قصور الملوك، وهي أغلى جوهرة تزان بها الصدور.
ولم يصعب عليه التعرف لها بصورة طالب علم، وهي عرفته هكذا لوالديها اللذين أعجبا كل الإعجاب بجمال منظره ونباهة شأنه، وودا أن يتخذاه صهرا لهما. ولم يمض وقت طويل حتى شغف حبه فؤاد إملي كما سبقت هي وتصبته وسبته. وخيل لها أنها بخطبته لها ارتقت إلى أوج الغبطة والسعادة، وثمل أبواها براح المسرة والابتهاج، وأصبح الخطيب يرى نفسه أسعد إنسان في فينا.
وبعد بضعة أسابيع ذهبت إملي وأمها لتشاهدا عرض الجيش، وهناك فوجئت برؤية ما أدهشها وكاد يذهب بصوابها؛ إذ إنها أبصرت خطيبها لابسا بذلة رسمية سنية، وقالت في نفسها ما شأن هذا التلميذ الحقير بالوقوف متنكرا في حلة بهية كهذه؟ فلا بد أن تكون مخطئة. ولكن لا محل لاتهامها بالخطأ، فهو خطيبها لا ريب فيه. ثم سألت فتى واقفا بجانبها: «من الواقف هناك؟» وأشارت إلى التلميذ خطيبها، فأجابها: «إنه الأرشديوق جوهان.»
وفي اليوم التالي ذهب الأرشديوق إلى بيت خطيبته، فانبرت له والدتها وأوسعته تأنيبا وتقريعا على سوء تصرفه؛ إذ حاول إغراء قلب ابنتها متنكرا في زي تلميذ، وهذا أمر شائن لا يليق به وهي لا تسمح بوقوعه. ومهما يكن من فقر ابنتها وضعة شأنها فهي أعف وأنزه من أن تتخذ ألعوبة بيد واحد من أعضاء الأسرة المالكة. فأجابها جوهان مقسما لها بأغلظ الأيمان أنه أحب إملي من كل قلبه محبة صادقة، وأنه لم يبق أميرا ملكيا، بل هو الآن واحد من رعايا الإمبراطور كالهر ستوبل أبي خطيبته، وأن أعظم شيء يتمناه في هذه الحياة أن يصير زوج إملي. فسكن غيظ أم خطيبته، وبعد أيام قليلة احتفل بزفها إليه، ثم ذهب بها إلى ضيعته حيث أقام في رغد وصفاء وسرور وهناء.
وبعد سنة نفض الأرشديوق غبار الخمول والبطالة، وجعل شعاره هذا القول: «أطلب الحصول على حق السعي والعمل، وإن لم يؤذن لي في التمتع به في بلادي طلبته في غيرها، وأرض الله واسعة الفضاء.» وعلى رغم ما أبدته والدته العجوز من التوسلات وما ذرفته من الدموع ظل مصرا على عزمه، فتخلى عن ألقابه وضياعه، وأعلن أنه من الآن فصاعدا سيكون اسمه مقتصرا على «جوهان أورث». وقد وافقته قرينته على قراره هذا. وبرحا كلاهما منزلهما في غمندن، وسارا إلى حيث ظلا مدة لا يعلم أحد عنهما شيئا.
Halaman tidak diketahui