أفكان اسمه سابقا ميشيل وكان يتعاطى بيع الجبن والتوابل في أورليان؟ ومن كان هذا الرجل - أو المرأة - الذي ظل سر حقيقته أكثر من أربعين سنة موضوعا لأحاديث الناس وضربهم في مفاوز الحدس والتخمين؟ ويقال إن بعض معاصريه عاشوا وماتوا وهم يعتقدون أنه لم يكن سوى دوفين فرنسا. ورجح غيرهم أنه في أيام صباه قتل ابنة سفليت وادعى أنه هو هي رجاء تمكنه من إثبات حقه في الخمسة ملايين فرنك التي أقرضها أمين الخزانة الملكية للكونت دارتوي. ولم تزل الحقيقة مجهولة حتى كشف عنها المسيو لينوتر حجاب الخفاء بعد وقت طويل قضاه في البحث والتنقيب، وهي لا تقل غرابة عما سبق ذكره من تاريخ سيدة فرسايل المجهولة.
ويؤخذ مما رواه لينوتر أنه كان في باريس في بدء الثورة الفرنسوية رجل يدعى م. سفليت دي لانج أمين الخزانة الملكية الذي عرض نفسه للإفلاس يوم أقرض أخا لويس السادس عشر عدة ملايين من الفرنكات، وكان أرملا وله ابنة وحيدة جميلة تسمى جني. ولما بسط حكم الذعر والرعب رواقه كان هذا الرجل في طليعة الذي طلبوا النجاة بالفرار، فهرب بابنته إلى بريتون قاصدا السفر إلى إنكلترة حيث يقيم حتى تسكن عاصفة المخاوف والاضطرابات. وفي طريقه لقي شابا نبيه الطلعة فصيح اللسان عرض عليه أن يكون دليله إلى بريتون؛ لأنه يعرف طريقها جيدا فقبل منه ذلك بالشكر. ووجده في أثناء الطريق خير رفيق يفيد ويسلي.
ولما وصل م. دي لانج إلى سنت مالو وجدها غاصة بالغرباء المهاجرين العازمين على اجتياز البحر إلى إنكلترة، وبينهم الآنسة جين فرنسوى ابنة المركيز دي ت. التي كان أبوها قد أرسلها لتلتجئ إلى إنكلترة مصحوبة بخادم طاعن في السن عازما على اللحوق بها فيما بعد. وعلى الفور تمكنت عرى المعرفة والصداقة بين الفتاتين - ابنة دي لانج وابنة المركيز دي ت. - وطلبت الأولى منهما إلى أبيها أن يسمح لصديقتها وخادمها بالسفر معهما، فأجاب أبوها طلبها، واستعد المهاجرون الخمسة (دي لانج وابنته ورفيقهما الذي يدعوه ليونتر ب. وابنة المركيز دي ت. وخادمها) للسفر على سفينة من سنت مالو إلى بليموث.
وبعد مسيرة يومين قال لهم ربان السفينة إنه لأسباب مهمة لا يستطيع الذهاب إلى إنكلترة، وإنه ذاهب بهم إلى همبورغ. وعلى رغم ما أبدوه من الاحتجاج والاعتراض ظل مصرا على عزمه، وسار بهم إلى همبورغ. وهناك توالت عليهم الكوارث والمصائب، فأصيب خادم جين دي ت. بداء عضال أماته بعد وصولهم إلى همبورغ بثلاثة أيام. ثم أصيب الباقون بعد بضعة أسابيع بحمى التيفوس، فأودت بحياة م. دي لانج وبابنته جني من بعده. وفيما كانت جني على فراش النزع صاحت بأعلى صوتها مخاطبة صديقتها جين فرنسوى: «لا تنسي أن الكونت دراتوي غادرني أموت فقيرة، وأن عليه لأسرتي دينا قدره خمسة ملايين فرنك!»
فلم يبق من خمسة المهاجرين سوى جين فرنسوى ابنة المركيز دي ت. والمسيو ب. هذان وجدا الفقر ينيخ بكلاكله عليهما وينشب أظفاره فيهما، فاضطرا أن يسكنا في قبو ويناما على أكداس الخرق والشعب اليابس. وكتبت جين غير مرة إلى والديها مستغيثة مستجيرة فلم تظفر بجواب، ولما اشتدت عليها حلقات الضنك والضيق وخيل إليها أن والديها تخليا عنها ولم يهتما بإنقاذها من مخالب الجوع، اضطرت على رغمها أن تجيب طلب رفيقها - الصديق الوحيد الباقي لها في العالم - وتعيش معه سرية له.
واتضح فيما بعد أن هذا الرجل ب. كان من شر الأوغاد الأنذال المطبوعين على الخيانة والغدر والخداع والاحتيال، وبعدما أوقع هذه الفتاة في شرك الاقتناص والاغتصاب، حدثته نفسه الأثيمة أن يسعى في استرداد جانب من ملايين دي لانج، فكتب عدة كتب إلى الكونت دراتوي بإمضاء جني دي لانج المتوفاة كابنة دائن الكونت، ولكنه لم يفز بطائل إما لعدم وصول كتبه إلى الكونت وإما لعدم اكتراثه لها.
وقضت جين فرنسوى عدة سنوات تعاني مرارة الفقر والعار والأسر عند هذا الطاغية، حتى انتهت الثورة وجاد عليها الزمان بالعتق والإطلاق. ولكن هذا الإطلاق خافته عندما سنحت فرصته خوفا لا يقل عن شدة تمنيها له قبل حصولها عليه. وراعها جدا إمكان اطلاع أهلها على السلوك الذي أكرهتها الأحوال القاهرة عليه. وبعدما قضى والداها وقتا طويلا في البحث عنها عرفوا مقرها، وبعثوا رسولا يجيء بها إلى بريتاني. وكان الخبيث ب. قد بلغه أن الرسول قادم، فاختفى عن الأنظار قبل وصوله.
وظلت جين فرنسوى مدة طويلة بعد رجوعها إلى بيت أبيها تقاسي آلام الذكرى لعارها الغابر، وخوف افتضاح السر المدفون في أعماق صدرها. ولكن على توالي السنين ضعفت الذكرى وقل الخوف. ولما جاءها الكونت دي س. ر. خاطبا سرها أن تصير زوجة له؛ لظنها أنها أصبحت في مأمن من اتضاح أمرها وافتضاح سرها. وبعد اقترانها بهذا الكونت بدت في مقدمة كواكب الحسن والجمال التي أشرقت في ذلك الحين في سماء بلاط البوربون، وذاعت شهرة جمالها كما انتشر صيت برها وتقواها.
وفي ذات يوم من سنة 1815 وقفت امرأة غريبة على بوابة قصرها، وطلبت أن ترى الكونتس التي أمرت على الفور بإدخالها إليها. وبعد خروج الخادم رفعت نقابها وسألت الكونتس: «هل عرفتني؟»
فارتعدت فرائص الكونتس من شدة الذعر؛ لأنها من فورها عرفت الرجل ب. الذي أذلها، وهو المشارك لها في هذا السر المخيف الذي تفضل الموت على انكشاف ستره. أما هو فصاح بلهجة الظافر المنتصر: «أراك عرفت صديقتك القديمة جني سفليت دي لانج. حسن. فلنبحث في الأمر بملء الصراحة.» ثم شرع يعلن خطته والكونتس مسلوبة الرشد مشردة الأفكار، وخلاصة ذلك أنه عزم أن يمثل شخصية جني دي لانج المتوفاة، وباسم ابنة الرجل الذي أقرض الكونت دارتوي خمسة ملايين فرنك، يطالب برد هذا المبلغ إليه. ولكي يتمكن من السير في هذه الدعوى يحتاج إلى من يشهد له بصحة دعواه، ويؤيده بماله من سمو المنزلة ورفعة المقام في البلاط. والكونتس وحدها قادرة على قضاء هذه الحاجة. فإن أجابت اقتراحه ظل سر حياتها في همبورغ مكتوما، وإلا فهي أدرى بالنتيجة.
Halaman tidak diketahui