1
فاستدعاه الملك إليه وأبلغه أنه عينه سفيرا في روسيا، وبعد أيام فرغ من اتخاذ الأهبة وخرج لطيته البعيدة؛ غادة بارعة الحسن والجمال، يصحبها الشفاليه دغلاس، وهو أفاق سكوتلندي كان قد لجأ إلى باريس هاربا من الحكم عليه بالموت. وقد وصفها بعضهم يوم برحت باريس إلى بطرسبرغ فقال: «صغيرة الجسم رشيقة القوام وردية الخدين زرقاء العينين كبيرتهما، حلوة المبسم حافلة بكل ما يمهد أمامها سبيل الفوز برضا الإمبراطورة والاستيلاء على قلوب عظماء الرجال في البلاط الروسي.» وقد حملت معها رسالة من لويس الخامس عشر بخط يده إلى إليصابات، وخبأت في طي أحد كتب الحقوق الملحنة السرية لإجراء المفاوضات بها بين الإمبراطورة والملك.
فسرت إليصابات بهذه السفيرة البارعة الحسن والفائقة الذكاء، وبالغت في الاحتفاء بها والالتفات إليها، وبوأتها من فؤادها أرفع منزلة، وجعلتها موضوع أنسها ولهوها في عزلتها وخلوتها، ولما أفضت الآنسة ليا (وهو الاسم الذي أطلقه ليون على نفسه) إلى الإمبراطورة بسر تنكرها متكلفة الخجل والارتباك، وإيجاس خوف اغتياظها من هذه المخادعة، لم تقتصر الإمبراطورة على تسكين اضطرابها وتبديد مخاوفها، بل أسرفت في إكرامها وتقريبها إليها؛ لأنها كانت مشهورة بشدة ميلها إلى محاسن الرجال. وقيل إنها جعلت هذه الآنسة المحتالة قارئتها المخصوصة، فكانت تقضي كل يوم بضع ساعات خالية بها وناعمة بقربها، وأذنت لها أن تقيم في الغرف المعدة في القصر للكونتس كاترين ورنزوف ابنة أخت وزيرها الخاص. وهذا الامتياز النادر المثال - أي شدة الاتصال بالإمبراطورة - أثار الريب والظنون وأطلق الألسنة بالتهم. على أن ديون لم يغفل عن استخدام هذه الفرص السانحة ذريعة للوصول إلى الغرض الذي جاء لأجله، فتمكن من استمالة الإمبراطورة وحملها على عقد محالفة مع فرنسا والنمسا، وهذه المحالفة أفضت إلى نشوب الحرب المعروفة بحرب السبع سنين. ودليلا على رضا إليصابات عن قارئتها ومحبتها لها عهدت إليها القيام بعمل لا يعهد به إلى غير السفير، وهو حمل معاهدة المحالفة إلى ملك فرنسا.
ومما يذكر تأييدا لهذه القصة (المعدودة عند بعض الكتاب أسطورة ملفقة لا صحة لها) وجود صورة لديون في نحو هذا الوقت، تمثله فتاة بارعة الجمال ذات صدر رحب كبير. فإذا كانت هذه الصورة مأخوذة عن رسمها الحقيقي كما نعتقد لم يبق أقل شك في صحة أنثويتها واستحالة كونها رجلا.
وفي السنة التالية عاد ديون إلى روسيا شاغلا لمنصب كاتم أسرار السفارة وفي ملابس رجل، فلقي عند العظماء والكبراء حفاوة وإكراما لا مزيد عليهما. كان موضوع إعجاب الرجال بما أظهره من البراعة في الألعاب الرياضية، ولا سيما اللعب بالسيف. وكان عند السيدات الشريفات موضوع الحيرة والدهشة وآية التعجب والاستغراب، وشدة الرغبة في حل لغز جنسه والوقوف على كنه سره.
وفي هذا الوقت شاعت مسألة جنسه وذاعت، وأصبح التحدث بها ملء الشفاه والألسنة في عواصم أوروبا وأمهات مدنها، وصار للكلام عليها صدى تردده أندية الرجال ومجالس السيدات. ولما رجع إلى باريس تسابق الناس رجالا ونساء إلى استقباله والاحتفاء به، وكان له عند السيدات على الخصوص شأن عظيم. وسأله واحد أن يميط لثام الغموض والخفاء عن حقيقة نفسه، فكان يتخلص من الجواب ببراعة محام وخفة لاعب بالسيف.
ولما طال تغزل الرجال به وإعجاب النساء ببارع حسنه ورائع جماله، سئمت نفسه هذه التملقات، وصحت عزيمته على أن يبرهن للناس أنه وإن كان امرأة لا يعجز عن إتيان ما يفتخر بعمله أشد الرجال ساعدا وأذكاهم عقلا. فاستأذن في الانضمام إلى الجيش ليخوض المعارك الناشبة بين فرنسا وممالك إنكلترة وبروسيا وهنوفر، فأذن له، وظل أشهرا يبدي من البسالة والإقدام في ساحات الصدام ما أدهش الأبطال. وقد تولى قيادة الدراغون وكاد يذهب بعقول الذين كانوا يعدونه امرأة ويقسمون على صحة ذلك أغلظ الأيمان، ويؤيدونها بألف دليل وبرهان. وفي ذات يوم حمل برجاله الدراغون على كتيبة بروسية فمزق شملها كل ممزق، وغادرها كلها قتلى وأسرى وجرحى.
ولما عاد إلى باريس مكللا بغار النصر والظفر كان الدوق دي نافرناي على أهبة السفر إلى إنكلترة لعقد الصلح، فتعين قائد الدراغون كاتما لأسراره، وذهب معه إلى إنكلترة حيث قضى عدة سنوات في المغامرة واقتحام ما لا يحصى من المخاطر، وكانت شهرته قد سبقته وأعد له في بلاط الإنكليز ما شاء من ضروب الحفاوة والتكريم بين رجال العظمة ونساء الشرف. وكان على الخصوص موضوع اهتمام الملكة صوفيا شارلوت قرينة الملك جورج الثالث، التي كثيرا ما خلت به ساعات طوالا متملية لذة محادثته والكلام معه. وأصبح الناس في إنكلترة يلغطون في سر ديون الخفي، ويذهبون في حل لغزه مذاهب مختلفة.
وكثيرات من السيدات دعونه إلى منازلهن في لندن وخارجها، فخرج من لدن كل منهن خروج يوسف من لدن امرأة فوطيفار، وكان هذا مؤيدا لحجة القائلين إنه امرأة.
أما سفير فرنسا في لندن، فصرح غير مرة أمام كثيرين من الأعيان والعظماء بأن ديون امرأة. ولشدة اختلاف الآراء في هذا الموضوع راجت سوق المراهنات على مبالغ باهظة بلغت عشرات الألوف من الجنيهات، وكثيرا ما كانت تؤدي إلى مشاغبات ورفع الدعاوي إلى المحاكم.
Halaman tidak diketahui