وظلت إلى آخر دقيقة من حياتها مهتمة لغيرها لا لنفسها. وقبيل وفاتها استدعت إليها الأب بوسويه مرة ثانية، وقالت له إنها عن قليل تموت، وطلبت الصليب، فأعطاها إياه، فقبلته بحرارة، وقالت إنها أحبت الله من كل قلبها. وكانت تجيب الأب بوسويه عن كل ما سألها بوضوح وجلاء كأنها متمتعة بكمال الصحة. وظلت واضعة الصليب على شفتيها حتى لفظت النفس الأخير.
بقي أن نسأل كيف ماتت دوقة أورليان؟ أمسمومة أم حتف أنفها؟ وعن هذا السؤال يجيب سنت سيمون بقوله: «لما نعيت الأميرة إلى الملك استدعى إليه سيمون مورل قهرمان قصرها وسأله بعدما وعده بالعفو عما يكون قد ارتكبه من القصور والإهمال أو الغدر والخيانة، وقال له: «هل ماتت الأميرة مسمومة؟» - نعم يا مولاي. - كيف؟ من سمها؟ «الشفاليه لدرين عاشق زوجها الذي أمرت جلالتك بسجنه. فإنه بعد خروجه من السجن ذهب إلى إيطالية وبعث بالسم من هناك إلى اثنين من خدم سموها.» - وهل عرف أخي شيئا عن هذا الأمر؟ - كلا يا صاحب الجلالة، لم يطلع أحد على هذا الأمر، بل ظل سره مكتوما في صدري وصدر كل من الخادمين.»
أما براءة زوجها من هذه الجريمة الفظيعة فمؤيدة بما قالته زوجته الثانية جوقة بلاتين: «أخبرني خادم مخدع الأميرة الذي اتصل فيما بعد بخدمتي قال: بينما كانت الأميرة وزوجها في الكنيسة في صباح يوم الحادثة، رأيت الخادم آفيا قد تناول كأس سموها ومسحها من داخلها بورقة. ولما سألته لماذا دخل غرفة الأميرة وما شأنه في تناول كأسها، قال لي إنه عطشان يروم أن يشرب، وإذ رأى الكأس يعلوها الغبار مسحها بورقة. وبعد العشاء طلبت الأميرة قليلا من شراب الهندبا، وبعدما شربته صاحت: قد سممت. وجميع الذين كانوا حاضرين تناولوا من الشراب بكئوس أخرى ولم يصابوا بأقل ضرر.»
مجنون متوج
في أحد أيام شهر أغسطس من سنة 1845 عم الفرح والسرور جميع أنحاء بافاريا، واستيقظ الناس على قصف المدافع وقرع أجراس الكنائس تبشيرا بأن قرينة ولي العهد الأميرة ماري - أو ملاك الله كما لقبها البافاريون - قد ولدت وارثا للعرش. وقلما لقي مولود في إحدى الأسرات المالكة ما لقيه هذا الطفل من مجالي الابتهاج والحبور ومظاهر التجلة والتكريم. ولما احتفل بعماده حملته الملكة تريزا بين ذراعيها أمام حوض المعمودية حيث نضح بماء من نهر الأردن. وكثيرون من عظماء الملوك وقفوا كفلاء له. وسمي لودوك
1
باسم جده الملك، وكان لا يزال جالسا على العرش، وباسم القديس لودوك؛ لأنه ولد يوم عيده.
ومع أنه ولد في مهد الرخاء والترف، فقد ربي في طفولته وحداثته تربية الشدة والخشونة، التي كان يجب أن يشب منها أصدق مثال للرجولية الصحيحة. ففي سن الحداثة كان هو وأخوه أوتو المولود بعده يعيشان على أبسط الأطعمة من الخبز والجبن وقليل من اللحم وغيرها مما عافه لودوك واستكرهه، حتى إنه لما بلغ أشده قال: «الآن أصبح زمام أمري بيدي، ولم يبق لأحد سلطة علي. فأطلب ألا يخلو عشائي كل يوم من لحم الطيور وأنواع الكعك.» ولكيلا يتمكن هو ولا أخوه من شراء ما ينعمان بأكله كان المعين لنفقتهما الأسبوعية نحو عشرة قروش. وهذا التقتير الشديد غاظ أوتو فاحتج عليه شاكيا متذمرا. ولما بلغه أن السن الصحيحة تباع بجنيه، ذهب إلى أقرب طبيب أسنان وعرض أن يبيعه أسنانه كلها؛ لأنه غير محتاج إليها.
وهذه الخشونة التي لابست معيشة الأميرين في صغرهما لم تقف عند هذا الحد، بل جاوزته إلى تخريجهما في الصنائع، فتعلم لودوك صناعة البناء، وأوتو صناعة النجارة. وبعدما قضى لودوك وقتا قصيرا يزاول تعلم صناعته عند بناء، ذهب إلى والدته وقال لها بلهجة العجب والافتخار: «أصبحت الآن بارعا في بناء الآجر - الطوب - كأحذق البنائين.» فسألته ضاحكة: «وهل تظن أنك قادر أن تعيش من تعاطي هذه الصناعة؟» فأجابها: «نعم، قادر بسعة وغنى.»
ولكن على رغم هذه الخشونة كلها كان لودوك منذ حداثته مائلا أشد الميل إلى التعلق بحبال الأوهام والهيام في أودية الرؤى والأحلام. وفي ذات يوم رآه مؤدبه مضطجعا محقوقفا على متكأ في غرفة مظلمة، فقال له: «ينبغي لسموك أن تلهو بشيء يشغلك ويدفع عنك سآمة البطالة وملل الفراغ.» فأجابه: «لست في بطالة ولا في فراغ، بل أنا مشغول بالتأمل في عدة أمور، وعلى ما أروم من البهجة والسرور.» وهكذا كان يقضي ساعات مستلقيا على ظهره وسابحا على أجنحة التخيلات. وفي منتصف إحدى الليالي وجدوه جالسا بين المقابر وهو غارق في لجة الهواجس والوساوس.
Halaman tidak diketahui