فدخلتا ديرا آخر، ولكنهما لم تلبثا أن خرجتا منه؛ لأنهما بعدما أثبتتا صحة نسبهما لم يبق في طاقتهما وهما سليلتا الملوك أن تعيشا عيشة الزهد والاعتزال. ولكن الضياع التي كانت لأجدادهما لم تزل محجوزة عنهما، فذهبتا إلى الجهة التي فيها تلك الإقطاعات لتطالبا برد حقوقهما المغصوبة. وهناك لقيتا من الحفاوة والإكرام ما يقصر عن وصفه أبلغ الكلام. ونزلتا ضيفتين كريمتين عند سيدة غنية تسمى عقيلة دي سرمونت. وفي بيتها أقيمت لهما الاحتفالات، وأولمت الولائم، وتسابق الضباط الذين في ثكنة لونفيل إلى ترضيهما وخطبة مودتهما. ويقول أحد عارفي الآنسة دي فالوي في وصفها: «إنها كانت رشيقة القوام، وذات عينين زرقاوين تنفثان سحر الجمال، وفوقهما حاجبان سوداوان كأنهما قوسان ترسل عنهما سهام الافتتان إلى قلوب الخليين، ومع أن وجهها كان مستطيلا قليلا، وفمها يزيد في اتساعه عن القدر المطلوب، فإن أسنانها كانت في بياضها وحسن انتساقها كاللؤلؤ المنظوم، يزينها ابتسامة شائقة رائقة. وكانت جميلة اليدين نحيفة القدمين، ولكنها كانت عارية من حلية الأدب.» وهذا النقص كان أهم ما عرفت به في حياتها، وظل أكبر عامل فيما أقدمت عليه ووجهت التفاتها إليه.
وكان في طليعة عشاقها البارون دي لامونت، وهو شاب حسن البزة بهي الطلعة، ولكنه عاطل من حلية العقل والأدب، وقد قبلته الآنسة دي فالوي خطيبا لها بعدما عبثت بضيافة عقيلة دي سرمونت بطول المكث وشدة التثقيل عليها وانتظام زوجها في سلك المغرمين بضيفتها غير المحتشمة.
ولم يمض على اقترانهما وقت طويل حتى رأت جان أنهما في عسر مادي لا يطاق؛ فإن زوجها لم يكن له من الدخل فوق راتبه من الجيش سوى جنيه واحد في الشهر. ولم يبطآ أن أصبحا رازحين تحت حمل دين ثقيل. وكانت البارونة مع شدة وطأة الفقر عليها، لا تنفك تواصل عيشة التبذير والإسراف. وحينئذ لم تر بدا من السعي فيما يخفف عنها أعباء البؤس والشقاء. ومن فورها قصدت ولية نعمتها المركيزة، وقرعت باب جودها وحنوها. وكانت المركيزة إذ ذاك في قصر سافرن نازلة ضيفة على الكردينال الأمير لويس دي روان، وقد أحسنت تمثيل حكاية بؤسها وضنكها، وهاجت الشفقة والرأفة في قلب المركيزة ومضيفها، فأوفت المركيزة ديونها كلها، وبادر الكردينال - وكان من أكبر الخاضعين لسلطة جمال النساء - إلى بسط ظل حمايته عليها.
وبعد اتصالها به واختبارها له وجدته على جانب عظيم من قلة العقل وشدة الغباوة وسفاه الرأي. وكان هذا كله لحسن حظها؛ إذ رأته خير وسيلة يسهل عليها استخدامها لقضاء مآربها. وفيما كانت تمهد السبيل لإدراك بغيتها بذلت جهدها في التقرب إلى سيدات البلاط، فأوهمتهن بأنها صديقة حميمة للملكة ماري أنطوانيت، وأطلعتهن على عدة رسائل مكتوبة حسب الظاهر بخط جلالتها، ولكنها بالحقيقة مزورة بخط أحد أصدقاء زوجها. وفي كل من هذه الرسائل تخاطبها الملكة بقولها: «حبيبة قلبي، وأعز صديقة لي، الكونتس» (متعمدة انتحال هذا اللقب). ولكن هذه الاحتيالات كلها لم تجدها نفعا حتى عند سراري الملك. فأعرضن عنها ولم يعرنها أقل التفات، فوجهت اهتمامها إلى جهة أخرى، ولم تجد ما يشفي غليلها من هذا القبيل سوى التذرع بالكردينال الذي كان في هذا الوقت قد أصبح متيما بها، وعبد رق لها تأمره بما تريد وتنهاه عما تشاء.
وكانت أخلاق الكردينال مظهرا لكثير من مواضع الضعف ووهن العزيمة. واطلعت البارونة جان على أهم موضع منها وصوبت إليه حملات التسلط بما لا مزيد عليه من الدهاء والاحتيال حتى استأثرت به وأخضعته لسلطانها. وخلاصة ذلك أنه لما كان في فينا منذ سنوات اطلعت ماري تريزا إمبراطورة النمسا على أعماله المغايرة للحشمة والأدب والعابثة بكرامة رتبته الدينية، فازدرته واحتقرته، ولم تقتصر على كراهتها له، بل حملت ابنتها ماري أنطوانيت أن تحذو حذوها، فلم تأذن للكردينال في الدخول إلى القصر الملكي في باريس.
وقد قضى وقتا طويلا يسعى في استعطافها وترضيها، واستخدم كثيرا من الوسائط وأنفق مبالغ باهظة من الأموال، فذهبت كلها أخيب من صرخة في واد أو نفخة في رماد. وكان لشدة غروره واعتداده بنفسه يظن أنه إذا تمكن من المثول أمام جلالة الملكة ماري أنطوانيت يستطيع أن يستبيها بفصاحة لسانه وسحر بيانه وحسن صفاته وجمال منظره، ويحول كراهتها له إلى إعجاب واستحسان إن لم يكن إلى غرام وهيام. ولكن هذا الشيء الوحيد - المثول أمامها - لم يقدر عليه؛ لأن ماري أنطوانيت أبت أن تراه إباء مطلقا.
وأمام هذه العقبة الكئود سنحت الفرصة لقرينة دي لاموت - الكونتس جان - واتسع مجال العمل. والإيهام الذي حاولت أن تأخذ نساء القصر بحبائله ولم تفلح، حاولت الآن أن تنصب أشراكه للكردينال. فأوهمته أنها أعز الصديقات على الملكة، ولكيلا تبقي عنده أقل ارتياب من صحة هذا الأمر أرته رسائل جلالتها إليها مفعمة بتعابير الشوق والمحبة والإعزاز، وقالت له إن جلالتها متعلقة بها تعلقا يتعذر وصفه؛ ولذلك هي مستعدة على الدوام أن تجيبها إلى ما طلبت، وليس في وسعها أن ترفض لها التماسا مهما يكن أمره عظيما. ومن أسهل الأمور عليها أن تحمل جلالتها على الرضا عنه والميل إليه، وستبذل جهدها في قضاء الحاجة حتى يتمكن من دخول القصر على السعة والرحب.
فسر الأمير لويس دي روان (الكردينال) بهذا الكلام، وطفق يعلل نفسه ببلوغها غاية المنى حين تعطف عليه الملكة بنظرة وابتسامة. وبعد ذلك - من يعلم؟ - فقد يتمكن بحسن تناوله وبراعة أساليبه أن ينال منزلة في قلبها لم ينلها أحد سواه.
وما عتمت قرينة دي لاموت أن جاءته مسرعة تتلو عليه بشرى نجاح مسعاها، قائلة له إنها تمكنت من إقناع الملكة بإخلاصه وولائه، ومحت ما كان عالقا بذهنها من آثار البغض له والحقد عليه. ثم ناولته رسالة من الملكة إليه تعلن فيها رضاها عنه، فلم يبق عنده مجال للشك في ما حدثته به. والرسالة نفسها أصدق شاهد، وهي مكتوبة بخط الملكة وممضاة: «صديقتك ماري أنطوانيت». وبعدما تلاها هذا الغر الأبله قربها إلى شفتيه وأشبعها تقبيلا. ثم تلتها رسائل أخرى كل منها تفوق سابقتها في عبارات الشوق والمحبة، حتى خيل إلى روان أنه أصبح في أوج السعادة، وأن السيدة العظيمة الشأن التي طالما أبت أن تشاهده، صارت الآن صديقته، بل أقرب إليه من صديقة له كما تدل عباراتها. ولم يبق لتتمة مشتهاه سوى أمر واحد، وهو أن يحظى بمقابلتها ويسعد بتقبيل يدها. وهذا ما وعدت حليفته البارونة أن توصله قريبا إليه، وتسبغ نعمته عليه.
وكان الوعد بالمقابلة أسهل جدا من تهيئتها وتعيين زمانها ومكانها. ولكن السعد الخادم لقرينة دي لاموت أعانها على تذليل هذه العقبة. ففي ذات يوم لقي زوجها فتاة بينها وبين الملكة مشابهة شديدة في الوجه والقامة. فتعرف لها وطلب إليها أن تصحبه إلى بيته. فلما رأتها قرينته سرت بها سرورا عظيما؛ لأنها ضالتها المنشودة. وكان اسمها ليغاي، وهي فقيرة تعيش بما تأخذه من الأجرة على ترتيلها في الكنيسة، فقالت لها جان أنها صديقة الملكة العزيزة، وأن جلالتها طلبت إليها أن تجد لها فتاة تمثل أمرها بخدمة تعينها لها، فتجيزها عليها بمبلغ خمسة عشر ألف فرانك. وعلى الفور أعلنت الآنسة ليغاي استعدادها لهذه الخدمة مبتهجة أشد ابتهاج بشرف خدمة الملكة وعظم مقدار الأجرة.
Halaman tidak diketahui