وإلى آخر حياته ظل هذا الماجن الخليع عبد لذاته وأسير شهواته، واستمر يلقي شباك مكره وخداعه، ويتصيد حسان النساء واحدة بعد الأخرى، منتقلا متبدلا بسرعة حق لكاترين أن تعد بالنسبة إليها مثال الرسوخ والثبات. وقد قال يوما عن نفسه: «لقد نلت كل ما تمنيت الحصول عليه، ولم يفتني منه شيء. طمحت نفسي إلى السلطة والسيادة، فأحرزت منها ما شئت، وأصبحت مطاع الأمر والنهي. وملت إلى القمار، وكان في إمكاني أن أخسر كل ليلة مبالغ لا تقدر من غير أن أشعر بأقل انزعاج على فقدها. وقضيت مرادي من مآدب وولائم يعجز عن الإنفاق عليها أعظم الملوك ثروة واقتدارا. وعندي من العقارات فوق ما أروم، ومن القصور ما لم يكن لأكبر السلاطين والقياصرة، ومن الحجارة الكريمة ما لا يحصى. فأنا من كل وجه مغمور بالعز والجاه والسؤدد، ومحاط بالثروة والغنى، ولست بحاجة إلى شيء ما على الإطلاق.» ولما فرغ من هذه التأملات عمد إلى إناء من الخزف الفاخر ورمى به الأرض، ثم دخل مخدعه وأقفل الباب وراءه.
وقد بلغ من الاستئثار بهذه العظائم مبلغا قصرت الإمبراطورة كاترين عن مجاراته فيه؛ فإن قصوره كانت مفروشة بأغلى الرياش وأكرم الأثاث، ومزدانة بأنفس ما ابتكرته قرائح رجال الفن في النقش والحفر والتصوير. وكان يقضي وقت الفراغ في عرض هذه التحف والطرائف، ونقلها من مكان إلى آخر، أو بجمع ما عنده من الحلى والجواهر. وفي ذات يوم مل جواهره فباعها، وما عتم أن اشتراها بمضاعف الثمن الذي باعها به.
ولعل أعظم مجالي الأبهة والمجد ومظاهر الفوز والانتصار التي ازدانت بها حياة بتيومكين، هي تلك الرحلة السنية الملكية التي أعدها لسفر كاترين إلى بلاد القرم في جنوب روسيا 1787 لكي تشاهد بعينيها الجوهرة الساطعة التي أضافها حبيبها السابق إلى تاجها الملكي. ولم يرد قط في التاريخ وصف رحلة أعظم شأنا وأبهى رونقا من هذه الرحلة، بل لم يرج قط على ملكة من سلع المكر والخداع ما روجه بتيومكين على كاترين.
وهذه الرحلة الطويلة التي بلغت مسافتها 2000 كيلومتر، قطعت الإمبراطورة بعضها في مركبة فاخرة يجرها ثلاثون جوادا ، وبعضها في مركب يخفره ثمانون سفينة وثلاثة آلاف جندي. وكانت في كل موقف تجد منزلا معدا حافلا بكل ما تشتهيه من أسباب الراحة والرفاهة. وكانت كيفما التفت على جانبي الطريق ترى البلاد والقرى عامرة بسكان تلوح على وجوههم أمارات رغد العيش ونعيم البال، والسهول الفسيحة الواسعة الأرجاء تموج كالبحر بقطعان المواشي، والفتيات يرقصن على نغمات قياثير الرعاة. هذه المظاهر الخالبة الساحرة كان بتيومكين قد سبق وأعدها وحول القفر الماحل الجديب إلى روض مريع خصيب، لتقر برؤيته عينا عشيقة لم يخامرها قط شبه ريب في صحة ما تراه وتسمعه. ولما اجتاز مركبها ضفاف نهر دنيبر إلى البحر الأسود مخفورا بالثمانين سفينة غصت ضفاف النهر بجماهير السكان رجالا ونساء وأولادا، وهم يزحمون بعضهم بعضا لينظروا هذا المشهد البالغ غاية الفخامة، ويقدموا إلى قيصرتهم فروض الولاء والإخلاص. وخلاصة القول إن كاترين اجتازت هذه المسافات الشاسعة محمولة على جناح الابتهاج والحبور والدهشة والاستغراب من كل ما شاهدته من الزينات الفاخرة الباهرة، التي يطول بنا الكلام لو أردنا وصفها بالتفصيل. وهبها ظنت أن لبتيومكين يدا في هذه الزخارف، فمن المحقق أنها لم تشر قط إلى ارتيابها بكلمة واحدة. وقد سافر الأمير نفسه في موكب لا يقل عظمة وفخامة عن موكب كاترين إن لم يزد عليه. وقد سبقت الإشارة إليه سابقا.
ولما عاد من سفره جرى له استقبال لم يجر قط لملك مثله في الأبهة والعظمة والفخامة. وأهدت إليه كاترين مائة ألف ريال وحلة رسمية يتألق صدرها بحجارة الألماس، وقصرا أنفقت على أثاثه ورياشه ستمائة ألف ريال. وهذه الهدايا مع شدة نفاستها وكرامتها لم تكن شيئا يستحق الذكر عند بتيومكين وليد الحظ وربيب الترف. فقد روي عنه أنه أنفق في سفرته هذه سبعة ملايين. وهذا المبلغ مع دلالته على أعظم ضروب الإسراف والتبذير ليس إلا جزءا يسيرا من المائة مليون ريال التي اغترفها من بحر جود كاترين.
على أن كوكب سعده الذي تألق بكمال الضياء في سماء روسيا مدة عشرين سنة كان لا بد له من الخضوع لحكم الأفول، وإن دلت الظواهر على إمكان مواصلته للإشراق الساطع الباهر سنين ليست بقليلة. فقد كان وهو في الثانية والخمسين من عمره ممتعا بصحة ونشاط لا مزيد عليهما، حتى كتبت عنه كاترين حينئذ - في ربيع 1791 - إلى أحد أصدقائها في باريس تقول: «من يشاهد المارشال الأمير بتيومكين يحكم بأن الانتصارات المجيدة التي أحرزها قد جملته وحسنته؛ فقد رجع من ميدان القتال بهيا كطلعة النهار، وطروبا كالهزار، ومشرق الوجه كنجم الصباح. وزاد ما كان فيه من خفة الروح وسرعة الخاطر وشدة البراعة في ابتكار أساليب الهزل والمزاح. وقد هجر عادة تقليم الأظفار بالأسنان، فأصبح مثالا للإنسان الكامل أو لكمال الإنسان.»
وآخر لقاء بين كاترين وعشيقها السابق كان في الحفلة التي أقامها لها في قصر توريدا، الذي كان آخر الهدايا الكبرى التي خصته بها. وكانت هذه الحفلة مما يعجز قلم أبلغ الكتاب عن وصف عظمتها. فقد بذل الأمير بتيومكين كل ما في استطاعته من مظاهر التجلة والتكريم في استقبال كاترين. ولم يترك قط شيئا من أسباب الاحتفال ومظاهر الترحيب إلا وفره وادخره، فلم يستقبلها في القصر كملكة أو قيصرة، بل كإلاهة.
فقد أعد لها ثلاثمائة موسيقي يوقعون على آلاتهم أعذب ما تشنفت بسماعه الآذان من مطربات الألحان، وأقام مرقصا تنكر فيه الراقصون والراقصات، وكانوا من نخبة عظماء روسيا وصفوة نسائها الحسان، وقد رفلوا كلهم بملابس أدهشت الأبصار بغرابة أزيائها وكثرة ما عليها من الحلى والجواهر. ولما مدت موائد العشاء ناءت بحمل صحاف الفضة وأطباق الذهب، وتدفقت الخمور على أنواعها من البواطي تدفق المياه من ينابيعها. ومن كل وجه كانت هذه الحفلة أعظم حفلة جرت في قصور الملوك، وآخر مظهر من مظاهر بتيومكين وعظمته، وكان سرور كاترين بها لا يوصف. وظلت إلى آخر ساعة تأبى الانصراف وتكره مفارقة هذا النعيم المقيم. ولما فرغ الموسيقيون من إيقاع نشيد مخصوص لجلالتها نهضت تستعد للخروج، ومدت يدها لوداع بتيومكين والدموع تتساقط من أجفانها، ولم يكن دونها شعورا، فخر أمامها ساجدا وتناول يدها وبللها بدموعه. وهكذا افترقا ذانك العاشقان فراقا لم يعقبه لقاء.
فبعد أيام امتطى بتيومكين غارب السفر في رحلة بعيدة إلى الأقطار الجنوبية، فلقي فيها حتفه ولم يعد منها. ولما بلغ جاسي أصابه مرض لم يكترث له في أول الأمر، ولا خطر بباله أنه سيكون القاضي عليه. وعلى رغم شدة إنذار الأطباء له وتكرار توسلاتهم إليه، ظل تاركا نوافذ غرفته مفتوحة، معرضا جسمه لنفح الهواء في أوائل فصل الشتاء واشتداد وطأة الزمهرير. وكان يرحض جسده بماء الكولونيا، ويتناول أغلظ الأطعمة بما هو معهود فيه من النهامة والإفراط، ويغتسل بمقادير كبيرة من الخمور وغيرها من السوائل.
ولشدة رغبته في مواصلة السفر، وعلى رغم كون حياته معلقة حينئذ بميزان القدر، أصر على وجوب الرحيل عن جاسي والشخوص إلى نيكولايف. ولكنه لم يسر بضعة أميال حتى أناخ عليه الداء بكلكله، فنقلوه من المركبة وأضجعوه على العشب، وبعد دقائق معدودة أسلم الروح ورأسه على حضن ابنة أخته الأميرة برانتسكي، فمات على قارعة الطريق في صباح يوم من أيام أكتوبر سنة 1791، وانتهت حياة ذلك الأمير الذي ظل مدة عشرين سنة معدودا من أعظم الرجال سطوة وسلطة، وأعرضهم جاها وعزا. وحسبه أنه كان صاحب السلطان الحقيقي في أكبر إمبراطورية.
Halaman tidak diketahui