كان المرحوم والد أبي طنوس شريكا لأحد الأديرة، وكان دائما يتذمر من معاملة الرهبان، من طمعهم، وخداعهم وظلمهم واستئثارهم. هي ذي الآفات التي أضرمت نار البغض في قلب الوالد، ولقنته اللعنات التي كان يتفوه بها على مسمع ولده، فشب الولد وفي قلبه أقباس من تلك النار التي كان ينفخ فيها أبوه. وكثيرا ما تكون النهضات الإصلاحية نتيجة ضرر شخصي، وكثيرا ما يكون المرء مصلحا بالرغم من نفسه. أراد والد أبي طنوس أن ينتقم من بعض الرهبان لظلمهم له، فأشعل في قلب ولده بغض الإكليروس أجمعين؛ فهل أفاد نفسه؟ كلا، وهل يفيد أمته؟ إن في هذه القصة الجواب.
هاكم السبب الطبيعي لبغض أبي طنوس. أما الأسباب الاجتماعية، فمنها وطنية، ومنها أميركية. أما الوطنية فقد أفضنا فيها، وهي تتعلق بالأسباب الطبيعية. كان الوالد من أكاري الأديرة، فكانت معاملة الرهبان له أما للبغض الذي ولد في ولده.
أما الأسباب الأميركية، فمنها شخصية وقد نشأت عن طمع مادي، ومنها عقلية وقد نشأت عن مبدأ صحيح اكتسبه كما قلنا من مخالطة الأجانب، ومن مطالعة الجرائد العربية التي تصدر في تلك الديار.
كان أبو طنوس تاجرا في نيويورك، وكان شأنه شأن كل تاجر يحتاج في بعض الأحايين إلى الدراهم؛ ليدفع ما عليه من مستندات. ولما كان ذات يوم في عسر مالي، قصد الكاهن الذي كان يزوره في البيت، وينادي امرأته: «يا حبيبتنا»؛ ليستدين منه مائتي دولار؛ فرده الكاهن خائبا، وقد اعتذر إليه قائلا: «من أين للكاهن المال، يا ابني؟» وفي اليوم التالي جمعت الصدف الكاهن وأبا طنوس في أحد المصارف، وكان الكاهن ساعتئذ يرسل مالا إلى أحد أقاربه في الوطن !
جرت العادة بين المرسلين أن يستودعوا التجار أموالهم «ويسمسروا» لهم بالتجارة؛ أي إنهم يجيئون بالزبائن إلى من يدفع لهم فائدة كبيرة على مالهم.
كان المرسلون يصدون أبا طنوس ويتجنبونه، فلم يستودعه أحد منهم ماله، ولم يجئه أحد بالزبائن، ولم يقرضه أحد منهم شيئا من الدراهم عند الحاجة؛ فلا عجب إذا كانت هذه المعاملة تمكن البغض في قلب الرجل.
كره أبو طنوس الإكليروس لضرر في البدء جاءه منهم، ولكنه بعد أن مكث عدة سنوات في أميركا، واستنار بنور الواجب الحقيقي، غدا بغضه يتطور ويتحول، فنشأت من دودة محبة الذات؛ فراشة محبة الوطن. نشأ من البغض الذي سببه الضرر الشخصي بغض أوسع منه، وأعدل، وأعظم، بغض من أجل الخير العام. وهكذا أصبح طالب الانتقام محسنا من المحسنين. مثل هذه التطورات النفسية تحدث في كل منا، ولكن الذين يراقبونها ويحللونها قليلون.
قبل أن نواصل قصتنا - بل قبل أن نباشرها - علينا أن ندون حقيقة أخرى. لم يكن أبو طنوس يطالع الكتب، ولكنه يوم كان تاجرا في نيويورك كان الكاتب المستخدم في محله يكاشفه من حين إلى حين أفكاره الخصوصية في المسائل الدينية والسياسية المهمة. والكاتب هذا شاب تلقى العلم في إحدى المدارس السورية، فكان يحسن اللغة الإفرنسية، وكانت له رغبة شديدة في المطالعة. وهذا عامل آخر من عوامل التربية، فالذي مكن عرى الصداقة بين أبي طنوس وكاتبه، هو أنهما اتفقا في النظر إلى أمور كثيرة، وخصوصا إلى الإكليروس.
والكاتب عرف سيده بفولتير الذي كان يكثر من مطالعته، وسلحه بالبراهين «الفولتيرية» على الإكليروس، فكان يسرد له تواريخ الاضطهادات، ويحدثه دائما في ما كان من جهاد الفيلسوف الإفرنسي في سبيل الحرية والعدل.
إن هذا الكاتب، والحالة هذه، لمن المحسنين إلى أبي طنوس؛ فقد ساعد في تكييف بغضه وتطوره، فصار طالب الانتقام ممن ينشدون الخير العام.
Halaman tidak diketahui