فلما انتهى الأسد من كلامه تهيبت الحيوانات أن تعقب عليه، وظل كل منها ينتظر أن يتقدم غيره للكلام بعد الأسد ... إذ كانوا لا يريدون أن يوافقوه على رأيه وحكمه، ولا يهتدون إلى وجه الحيلة في مناقشته، وقد كانت المرأة تهم بالكلام بعد كل خطيب فيسبقها حيوان إلى الخطابة، فلما رأت سكوت الحيوان في هذه المرة، لم ترد أن تضيع الفرصة فبادرت إلى وسط الغاب وباغتت الجمع بهذا الاستهلال العجيب ...
خطاب المرأة
سبع يخطب بين السباع، وهذا السبع هو هذه القائمة بينكم الآن؛ ألم يدعني بعض الرجال سبعا جميلا؟ فأذنوا لأحد السباع أن يبسط لكم شكواه من الرجال.
شغلكم البحث في النزاع بين القوة والضعف، والغلاب بين الحق والباطل، عن البحث في علاقة هي ألصق بكم من كل علاقة، أعني بها علاقة الزوج بزوجه، فرب قوي منكم لا يعرض له ضعيف في غدواته وروحاته، ورب ضعيف لا يمنى بقوي طول حياته، على حين لا يوجد بينكم ذكر لم يسكن إلى أنثى، أو أنثى لم تسكن إلى ذكر.
ولا غرو أن سهوتم عن هذه العلاقة، فإنكم لا تبخسون لإناثكم قدرا، ولا تهضمونهن حقا، وأكثركم يكل إليهن اختيار من يعجبهن منكم، فتنتخب الأنثى من تحب وتصدف عمن تكره، فهن معكم في حال لا توجب الشكوى ولا يستحب معها التبديل.
أما نحن بنات حواء فليت لنا عند رجالنا حظوة إناثكم من ذكوركم؛ نحن نساق سوقا إلى أغراض ليست بأغراضنا، وتغمض أعيننا عمدا إلا عما يروق أزواجنا. نحن معطلات إلا عندما يشتهينا الرجال، مقصورات إلا عما يرضونه لنا من ضروب الكمال، لنا رءوس ولكنهم يقولون إنها لم تجعل للتفكير بل لإرسال الشعور، وحواس ولكنهم يزعمون أنها لأجلهم ركبت لا لإدراك الحقائق والأمور، ووجوه يلفونها في الحجاب لف الثياب في العياب، وأحداق لم تخلق لننظر بها، بل لينظر إليها الأزواج والأصحاب، أخضعتنا الهمجية بالقسوة، وأذلتنا المدنية بالحاجة، ولكن الهمجية كانت أعدل معنا وألطف بنا من المدنية، فقد كانت توقعنا في أحضان أشد الرجال أسرا وأمتنهم خلقا وأحماهم أنفا، ولم يكن أفضل لنا ولنوع الإنسان من هؤلاء الرجال في تلك الأجيال، أما المدنية فإنها تجرنا إلى فراش أوفر الرجال حطاما وأسناهم مقاما، من كل أعجف أصلف، محدودب الظهر مأفون الفكر، مرذول الخلقة والخليقة، نقبلهم لنا عشراء، ونتخذهم لأبنائنا وبناتنا آباء؛ لأنهم يجلبون لنا الطرف الثمينة، ويكفلون لنا اللهو والزينة؛ حاجات المدنية الخاوية، وعلالاتها الخاطئة الغاوية. أما حاجات الطبيعة المكتوبة في كل ذرة من ذرات أجسامنا، من رونق للصبا يرقص له قلب المرأة، ونضرة للعافية تتشوق إليها جوانحها، وخصال نبيلة وصفات رائعة وروح خلابة يسرها أن تنقلها إلى أبنائها، وأن تنجب جيلا كله مصوغ في قالبها، فقد علمتنا المدنية أن ننزلها المنزلة الثانية بعد حاجاتها، فإذا نسينا أنفسنا طرفة فتغلبت إرادة الطبيعة القهارة علينا فنلنا من تلك الحاجات نصيبنا، كان أول من يسفهنا ويهجرنا آباؤنا وأهلونا، أو نحن نحتال كي ننال منها خلسة فنغتنمها ما خفي سرنا، فإذا انكشف أمرنا للناس كان القضاء القائم بالعدل الكاذب بين الناس أول من يضطهدنا ويسمنا بميسم خزي لا يمحى.
ظلمتنا الهمجية فجعلتنا إماء للرجل نعيش في رقه ما عاش، ونهلك معه متى هلك، كأنها لا ترى لنا حياة مستقلة عن حياته، وقواما يجوز أن يستمر بعد مماته، وقد يورثنا أبناءه كما يورثهم الشاء والنعم، أو يئدنا رضيعات كأن وجودنا ضرب من التهم، وكان المعول في تلك الأجيال على العنف وبسطة الجسك فلم يخصنا هذا الظلم، بل شاركنا في أكثره كل ضعيف مغلوب على أمره، رجلا كان أو امرأة، حرا كان أو أسيرا. وكنا لا نعقل ما المساواة، بل كنا نحسب أن العدل ما يصنع بنا، فلما تعاقبت الأجيال، وحالت الأحوال، واشتدت الملاحاة بين المقهور والقاهر، وزالت الغشاوة عن الأبصار والبصائر؛ عرف المغلوبون أنهم هم الأقوياء ولكنهم مسحورون بالطلسم المدثور، وعرف الغالبون أنهم هم الضعفاء ولكنهم جالسون مجالس النفوذ والظهور، يهابهم الناس لمكانهم لا لجسارة جنانهم أو صلابة أبدانهم أو طلاقة لسانهم أو رجاحة أذهانهم، ووقف كلاهما أمام صاحبه بادي المطاعن عاريا إلا عما فيه من فضل واستحقاق، فنزع الأولون عن تلك الغطرسة، ونفض الآخرون غبار تلك المسكنة، وأصبحوا منذ ذلك الحين سواء بين يدي القانون؛ لأذلهم مثل ما لأعزهم من الصوت في اختيار الحكام ومراقبة الأحكام ... أفما كان ينبغي حينئذ أن تشمل هذه المساواة كل من كان مغبونا بالأمس، نعم ولكن هذا ما لم يكن، فقد بقي النساء مستثنيات من هذه الرحمة العامة حتى في أرقى الأمم وأعرقها مدنية. وإن تعجبوا معشر الأحياء فاعجبوا لامرأة تملك الضياع الفيحاء والرباع القوراء، والمتاجر الجوابة والمصانع الدوارة، وتسن القوانين لإصلاح هذه الأموال وحياطتها فلا تخول في سنها صوتا يخوله رجل لا يملك أصبعا من ضيعة أو لبنة من دار أو علبة في متجر أو مسمارا في مصنع؛ وتحرز إحداهن أسمى شهادات العلوم والفنون، ثم لا يسعها إلا أن تيأس اليأس كله من منصب قد يتطاول إليه رجل لم يمر في حياته بشارع فيه مدرسة. فهل حال أعجب من هذه الحال فيما تعلمون؟ أنبلى بسيئات الهمجية ثم نحرم حسنات المدنية؟ فأين إذن يكون إنصافنا؟ ومتى نخلص من أسرنا؟
أسألوا هؤلاء الرجال معشر الأحياء: أيستكبرون على أمهاتهم وأمهات أولادهم حقا ناله خدامهم وأجراؤهم؟
إنهم لا يدعون أنهم أجمل منا استواء خلق، وأكمل منا هندام شكل، ولو أننا ادعينا ذلك لما كان منا بدعا في الادعاء، ومع هذا فنحن لا نزعم أن كل امرأة أجمل من كل رجل، فما بالهم يزعمون أن كل رجل أعقل وأحزم من كل امرأة؟
على أننا لا نذكر أن المجال اتسع لنا مرة لمجاراة الرجال فيما يباهون به من أعمال العقل والحزم، فقصرنا عن شأوهم ولم نفر فريهم، فمنا نساء الحرب اللواتي كن يقاتلن مع الرجال كتفا لكتف؛ نضحا عن أوطانهن ومحاماة عن بعولتهن، ومنا الشواعر والرياضيات والكواهن والملكات والبواحث والطبيبات، فإن كان عدد هؤلاء لا يضاهي بعد عدد أمثالهن من الرجال فليس هذا من خطئنا، وإنما هو خطأ الرجل الذي أهمل فينا تلك المواهب وشغلنا بما هو أحط منها شأنا وأقل نفعا، موافقة لأهوائه ومرضاة لكبريائه.
Halaman tidak diketahui