لقاء العشر الأواخر بالمسجد الحرام (٥١)
مجلس في
ختم كتاب الشفا
بتعريف حقوق المصطفى ﷺ
للإمام الحافظ ابن ناصر الدين
شمس الدين محمد بن عبد الله بن محمد القيسي الدمشقي
٨٤٢ هـ
حققه وعلق عليه
عبد اللطيف بن محمد الجيلاني
دار البشائر الإسلامية
الطبعة الثانية
١٤٢٦ هـ - ٢٠٠٥ م
Halaman tidak diketahui
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله بجميع محامده، على جميل نعمه وفوائده، حمدًا يبلغنا عفوه ورضاه، ويجعلنا في دار كرامته ممن ينظر إليه ويراه، ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له إلهًا واحدًا أحدًا، وربًا قاهرًا فردًا صمدًا، ليس له صاحبة ولا ولد، لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفوًا أحد، ونشهد أن سيدنا محمدًا عبده المختص بالسيادة، ورسوله المبلغ عن الله عباده، وصفيه المبلغ من الاصطفاء مراده وزيادة، صلى الله عليه صلاة يوجب لنا بها الرضى، ويغفر لنا ببركتها ما سلف ومضى، وعلى آله المصطفين الأخيار، وأصحابه المرتضين الأبرار، وسلم تسليمًا.
أما بعد:
فإن من نعم الله العظيمة، وآلائه الجسيمة، وبركاته العميمة، ما فتح الله به من ختام كتاب الشفا، الشافي بقراءته من سقام القلوب والأدواء، المعلم بعظيم قدر المصطفى الكريم، المعلم بوصف خلقه الجميل وخلقه العظيم، الذي جنى ثمار أخباره بأبصر بصيرة من أنضر رياض، القاضي الإمام الحافظ أبو الفضل عياض بن موسى بن عياض بن عمرو -وقيل:
1 / 31
عمرون- بن موسى بن عياض، الذي نسبه في حمير الجميلة، إلى يحصب القبيلة.
وكان مولده فيما ذكره جماعة من الأعيان، ببلدة سبتة في النصف من شعبان سنة ست وسبعين -بتقديم السين- بعد أربع من المئين، وتوفي بمراكش [.. ..] وقد بلغ ثمانيًا وستين.
1 / 32
نشأ ﵀ مجتهدًا في تحصيل العلوم، على اختلاف أنواعها من المنثور والمنظوم، وكانت له الرحلة والاجتهاد، والعناية الشديدة بلقاء مشايخ البلاد.
أخذ عن الأئمة علومًا محبرة، ومن مشايخه: الحافظ أبو علي ابن سكرة، وأبو محمد عتاب، وأبو بحر ابن العاصي، وأخذ عن خلق من العالي والنازل، والداني والقاصي، وله من أبي علي الغساني إجازة، روى بها من حديثه وأجازه، وتفقه بأبي عبد الله محمد بن عيسى
1 / 33
التميمي وغيره.
وأخذ عنه خلق من أئمة عصره، منهم الإمام الحافظ الجوال، أبو القاسم خلف بن بشكوال، وأثنى عليه فقال: «هو من أهل العلم والتفنن والذكاء والفهم، استقضي بسبتة مدة طويلة حمدت سيرته فيها، ثم نقل عنها إلى قضاء غرناطة فلم يطول بها، وقدم علينا قرطبة فأخذنا عنه» .
وقال في ترجمته المستجادة، الفقيه السبتي محمد بن حمادة: «جلس القاضي للمناظرة، وله نحو من ثمان وعشرين سنة، فسار بأحسن
1 / 34
سيرة، كان هينًا من غير ضعف، صلبًا في الحق» .
وقال ابن خلكان في وصف علمه وسمته: «هو إمام الحديث في وقته، وأعرف الناس بعلومه، وبالنحو واللغة وكلام العرب وأيامهم وأنسابهم» .
قلت: ولقد برع في علم الحديث والأصول والفقه وأتقن، وفاق في العربية والأنساب والمعاني والبيان وتمكن، وله النثر الحسن، والنظم البديع، والفهم الثاقب، والذكاء السريع، وهو أحد الحفاظ الثقات، والأعلام الأثبات، وكان ممن اعتنى بالتصنيف، والجمع الفائق والتأليف.
ومن نظمه تشبيهًا، ما ارتجله بديهًا، فيما وجدته بخط أبي عبد الله محمد بن أحمد بن حيان التونسي، عن الحافظ أبي الربيع سليمان بن
1 / 35
موسى بن سالم الكلاعي فيما وجده بخطه، وأنشدني أبو عبد الله يعني محمد بن سعيد بن زرقون القاضي، قال أنشدني القاضي أبو الفضل عياض لنفسه ارتجالًا، وقد نظر إلى الزرع يتخلل الشقائق خضرته:
انظر إلى الزرع وخاماته ... تجلى وقد ولت أمام الرياح
كتيبةً خضراء مهزومةً ... شقائق النعمان فيها جراح
ومن نظمه المستجاد الوارد، ما قاله في فصل ربيع بارد:
كأن كانون أهدى من ملابسه ... لشهر نيسان أنواعًا من الحلل
أو الغزالة من طول المدى خرفت ... فما تفرق بين الجدي والحمل
1 / 36
ومن مصنفاته:
١- الإكمال في شرح صحيح مسلم.
٢- ومشارق الأنوار، الكاشف لكل موهم.
٣- والإلماع في علوم الحديث وشواهده.
1 / 37
٤- والكلام على حديث أم زرع وفوائده.
٥- والإعلام لقواعد حدود الإسلام.
٦- والمقاصد الحسان فيما يلزم الإنسان.
٧- وكتاب [التنبيهات] المستنبطة لشرح مشكلات المدونة والمختلطة.
٨- وكتاب الأجوبة المحبرة على الأسولة المتحيرة.
1 / 38
ومنها:
١- غنية الكاتب وبغية الطالب.
٢- وكتاب أسماء شيوخه.
٣- وكتاب الفنون الستة في أخبار سبتة.
٤- وكتاب أخبار القرطبيين.
٥- وجامع التاريخ.
1 / 39
٦- والكتاب النفيس المسمى بالمدارك، في طبقات أصحاب الإمام مالك.
وغير ذلك مما ألفه وأبداه، كهذا الكتاب الذي ختمناه.
وقد أنشدنا الشيخ الإمام العالم المحدث الأصيل أبو العباس أحمد بن الحافظ العلامة أبي الصفا خليل بن العلائي كتابة: قال: أنشدنا الشيخ
1 / 40
الإمام أبو الحسن علي بن الكمال محمد بن علي التميمي الهمداني الشافعي لنفسه في سنة أربع وأربعين وسبعمائة بجامع عمرو بن العاصي ﵁ بمصر، قال:
يا ربنا بالمصطفى وبجاهه ... قسمًا به ما إن يرد دعاء
عوض عياضًا بالرياض وبالرضى ... ما إن له إلا بالجنان جزاء
فلقد شفى كل الصدور شفاؤه ... وكتابه كتبت به الحسداء
أبهى من الوشي الرقيم سطوره ... وعليه من نور القبول بهاء
1 / 41
أهدى إلينا الحسن والحسنى به ... ونعم صفات المصطفى حسناء
وحبا بما أحيى المسامع ذكره ... ولكم غدا بالمرتضى إحياء
ما زاد فخرًا للنبي وإنما ... ذكر النبي وسيلةٌ ورجاء
فليهنه إدراك كل مؤمل ... وليهنه بعد الهناء هناء
يا سبتةً فيها العلوم تجمعت ... ما أنت إلا مشرق وضياء
يا قاضيًا بالحق في أحكامه ... لم ينس عند الله منك قضاء
يا مالكيًا مالكًا رتب العلا ... بجنان رضوان لديك علاء
يا منشئًا مدح الرسول لقد أبى ... الرحمن أن ينسى لك الإنشاء
الله معطيك الجوائز جمةً ... فليهنك التنعيم والنعماء
فكتابه الشفا شفا الصدور السقيمة، وضياء القلوب السليمة، ومن حقق نظره في تدقيقه، ودقق فكره في تحقيقه، ولمح بعين الإنصاف ملحه، حمد مؤلفه على ترتيبه ومدحه، وعلم أنه لم يصنف في معناه مثله، ولا نسج على منواله شكله.
ولعمري لقد اشتمل على ذكر الشمائل اللطيفة، والأخلاق الجميلة الشريفة، والأوصاف البهية، والمكارم الزكية، والمناقب العلية، والكرامات الجلية، والشيم الحميدة، والفضائل العديدة، والمعجزات الباهرات، والآيات البينات، والأعلام الظاهرات؛ التي اختص بها من أوتي جوامع الكلم، وخص ببدائع الحكم، نبينا محمد ﷺ الذي أرسله الله رحمة للعالمين، وابتعثه خاتمًا للنبيين، فعمت رحمته البادي والحاضر، وشملت المؤمنين حتى المنافق والكافر، لكن لهذه الأمة العظيمة، من هذه الرحمة العميمة، أجزل نصيب وأوفر غنيمة.
1 / 42
ومما أعطيت من الشرف الثابت الأساس، والخطاب الشريف الذي بغيره لا يقاس، قول الله ﷿: ﴿كنتم خير أمة أخرجت للناس﴾ .
قال العلامة أبو محمد عبد العزيز بن عبد السلام ابن أبي القاسم السلمي ﵀: «وقد أخبر الله تعالى أنهم خير أمة أخرجت للناس، وإنما كانوا خير الأمم لما اتصفوا به من المعارف والأحوال، والأقوال والأعمال، فما من معرفة ولا حالة، ولا عبادة ولا مقالة، ولا شيء مما يتقرب به إلى الله تعالى مما دل عليه رسول الله ﷺ [ودعا إليه إلا وله] أجره وأجر من عمل به إلى يوم القيامة؛ لقوله ﷺ: «من دعا إلى هدىً كان له أجره وأجر من عمل به إلى يوم القيامة»، ولا يبلغ أحدٌ من الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم إلى هذه الرتبة، وقد جاء في الحديث: «الخلق عيال الله فأحبهم إليه أنفعهم لعياله»، فإذا كان ﷺ قد نفع شطر أهل الجنة، وغيره
1 / 43
من الأنبياء ﵈ إنما نفع جزءًا من أجزاء الشطر الآخر.
كانت منزلته ﷺ في القرب على قدر منزلته في النفع، فما من عارف من أمته إلا وله مثل أجر معرفته مضافًا إلى معارفه ﷺ، وما من ذي حال من أمته إلا وله ﷺ مثل أجر ذلك القول مضمومًا إلى [أحواله ﷺ، وما من ذي مقال يتقرب به إلى الله ﷿ إلا وله ﷺ مثل أجر ذلك القول مضمومًا إلى] مقالته وتبليغ رسالته، وما من عمل من الأعمال المقربة إلى الله تعالى من صلاة وزكاة وعتق وجهاد وبر ومعروف وذكر وصبر وعفو وصفح إلا وله ﷺ مثل أجر عامله مضمومًا إلى أجره على أعماله، وما من درجة علية، ومرتبة سنية، نالها أحدٌ من أمته بإرشاده ودلالته إلا وله ﷺ مثل أجرها مضمومة إلى درجته ومرتبته ﷺ، ويتضاعف ذلك بأن من دعا من أمته إلى هدىً أو سن سنةً كان له أجر من عمل بذلك على عدد العاملين، ثم يكون على المضاعف لنبينا ﷺ؛ لأنه دل عليه وأرشد إليه» انتهى.
وهذا من خصائصه المعلمة، المشار إليها في أحاديثه المحكمة؛ منها:
- ما صح عن أبي هريرة ﵁ عن النبي ﷺ أنه قال: «ما من نبي من الأنبياء إلا وقد أعطي من الآيات ما مثله آمن عليه البشر، وإنما
1 / 44
كان الذي أوتيت وحيًا أوحى الله إلي فأرجوا أن أكون أكثرهم تابعًا يوم القيامة» .
- وعن أنس ﵁ قال رسول الله ﷺ: «أنا أكثر الناس تبعًا يوم القيامة وأنا أول من يقرع باب الجنة» .
- وعن أنس أيضًا ﵁ قال: قال رسول الله ﷺ: «آتي باب الجنة يوم القيامة فأستفتح فيقول الخازن: من أنت؟ فأقول محمدٌ، فيقول: بك أمرت أن لا أفتح لأحد قبلك» .
خرجه مسلم في صحيحه، والطبراني، وزاد: «من بشر لا أفتح لأحد قبلك ولا أفتح لأحد بعدك» .
- وحديث إسحاق، عن عثمان بن عطاء،
1 / 45
عن أبيه، عن ابن عباس ﵄، قال رسول الله ﷺ: «أرسلت إلى الجن والإنس، وإلى كل أحمر وأسود، وأحلت لي الغنائم دون الأنبياء، وجعلت لي الأرض كلها طهورًا ومسجدًا، ونصرت بالرعب أمامي شهرًا، وأعطيت خواتم سورة البقرة، وكانت كنزًا من كنوز العرش، وخصصت بها دون الأنبياء، وأعطيت المثاني مكان التوراة، والمبين مكان الإنجيل، والحواميم مكان الزبور، وفضلت بالمفصل، وأنا سيد ولد آدم في الدنيا والآخرة ولا فخر، وأنا أول من تنشق الأرض عني، وعن أمتي ولا فخر، وبيدي لواء الحمد يوم القيامة، آدم وجميع الأنبياء من ولد آدم تحت لوائي ولا فخر، وأنا أمامهم، وأمتي بالإثر» .
فصفات نبينا عليه أفضل الصلاة والسلام منيرة، وشمائله بديعة، ومدائحه خطيرة، ومن مدحه الذي لا تضاهيه المدح، ولا أشرف منه في العطاء والمنح، قول الخلاق العليم، مخاطبًا لنبيه الكريم ﴿وإنك لعلى خلق عظيم﴾ .
أكرم بمدح عظيم ... من الإله الكريم
مدح شريف (.. ..) (١) ... منزل من قديم
يتلى فيزداد نورًا ... قلب التقي القويم
_________
(١) هذا الشطر بحلجة إلى كلمة ليستقيم الوزن.
1 / 46
وفيه خير شفاء ... لكل قلب سقيم
أنى يقوم ثناءٌ ... مقام ذا التكريم
لسيد الخلق طرًا ... بوصف خلق عظيم
خلق النبي المرجى ... لدفع خطب جسيم
يوم يقوم الحساب ... فتحظى بجنة ونعيم
لأنه حين يدعى ... يجاب بالتنعيم
سل تعطى واشفع تشفع ... [يا عظم يا تعظيم]
صلى الإله عليه ... صلاة بر رحيم
وخصه كل وقت ... بأفضل التسليم
تم المجلس المبارك بحمد الله وعونه وحسن توفيقه.
1 / 47