كانت الكأس مترعة بين أيدينا، وكان منظرها جميلا رائقا تأخذه العين، ويهفو له القلب، وكان جديرا بنا أن نتساقاها قطرة قطرة حتى نأتي على القطرة الأخيرة منها، ثم نموت معا سعيدين بنشوتها، كما عشنا سعيدين بتساقيها، ولكنك كنت شقيا سيئ الحظ، فدفعتها عنك بقدمك دفعا شديدا فكسرتها، وأرقت ما فيها، فأصبحنا لا نجد لذة الحياة إذا عشنا، ولا نهنأ بضجعة الموت إذا متنا.
لم لم تعف عني يا «استيفن» وقد عاقبني الدهر بذنبك عقابا أليما، وأخذ لك مني فوق ما تستطيع أن تأخذ لنفسك بنفسك؟ فسلبني الثروة التي فتنتني عنك، والزوج الذي مالأته على الغدر بك، والهناء الذي زعمت أني أجده في جوار غير جوارك، وأحال تلك الشرارة من الحب التي كانت تلمع في قلبي فتضيء ظلمته إلى نار آكلة تحرقه وتضطرم في أنحائه، وتتغلغل في أعماقه وأطوائه، ولم يترك في موضعا واحدا يسع عقوبتك وانتقامك.
أتدري يا «استيفن» من هي تلك المرأة التي جلست إليها بالأمس تقرعها وتؤنبها، وتعد عليها ذنوبها وآثامها، وتتلذذ بمنظر ذلها وضراعتها؟
إنها لم تكن إلا شبحا من الأشباح الضئيلة المتهافتة، قد ذهب الدهر بجميع قواها، وضعضع جميع حواسها ومشاعرها، ولم يترك لها من آثار الحياة إلا عينا تنظر ولا ترى، وأذنا تسمع ولا تعي، ونفسا ذاهلة عن كل شيء حتى عن نفسها، وروحها تتسرب من بين جنبيها شيئا فشيئا ذاهبة في سبيلها.
تلك هي المرأة التي قسوت عليها، ولم ترحم بؤسها وضعفها فمددت إليها يدك القوية القادرة وطعنتها وهي جريحة مثخنة تلك الطعنة النجلاء، التي نفذت إلى قلبها، وقضت عليها القضاء الأخير.
قد غفرت لك كل شيء يا «استيفن» لأني أحبك، ولأني أعلم أنك ما قسوت علي هذه القسوة كلها إلا لأنك تحبني، فامنحني عفوك ومغفرتك وأنزلني من نفسك المنزلة التي كنت أنزلها من قبل، والتي أبذل اليوم حياتي في سبيلها، فإن كنت لا بد آخذا الموتى بذنوبهم فلا تأخذ بذنبي تلك الطفلة اليتيمة المسكينة التي لا سند لها ولا عضد، فهي وإن كانت ابنة المرأة التي خانتك، فهي ابنة المرأة التي أحبتك، وإني أعيذها بكرمك وفضلك أن تذوق طعم الشقاء على عهدك ، أو أن تحل بها كارثة من كوارث الدهر بين سمعك وبصرك.
أطعمها وتصدق عليها، فلطالما أحسنت إلى أبويها من قبلها، واجعل لها من صدرك الرحيم ملجأ تجد فيه حنان الأم ورعاية الأب، ولا تكلها إلى نفسها تصارع أهوال الحياة وآلامها فتصرعها، وتول بنفسك أمرها في الساعة التي تجتاز فيها تلك العقبة الكبرى من عقبات الحياة حتى لا تسقط سقطة تشقى بها أبد الدهر، واذكر لها دائما أن أمها كانت تحبها حبا جما، وأنها ما آثرت الموت على الحياة إلا لأنها عجزت عن أن تعيش بجانبها، ولأنها كانت شقية مرزأة فأشفقت عليها أن يطيش إليها سهم من سهام شقائنا.
الوداع يا «استيفن»، الوداع يا أحب الناس إلي، إنني أفارق هذه الحياة وأنت آخر من أفكر فيه، وكل ما آسف عليه، فاذكرني ولا تنسني، وتعهد بالزيارة قبري من حين إلى حين، إن كان مقدرا لي أن يكون لي قبر على ظهر الأرض، واحتفظ بالوديعة التي أودعتك إياها، فهي تذكاري الدائم المقيم عندك، وليهون عليك فقدي أن روحي قد امتزجت بروحك امتزاجا لا يغيره فناء ولا بلى، فلئن فرقت بيننا الأقدار في هذه الدار فسنلتقي في الدار الأخرى لقاء لا ينغصه علينا موت ولا فراق.
الوداع يا «استيفن»، وآخر كلمة أقولها لك في آخر ساعة من ساعات حياتي: «إني أحبك، وإنني أموت من أجلك.» (96) المقبرة
استطاع «استيفن» أن يستفيق من غشيته في أصيل اليوم الثاني، ففتح عينيه ودار بهما حوله فرأى «فرتز» وزوجته وأولاده جلوسا تحت قدميه يبكونه ويتوجعون له، فظل شاخصا ببصره هنيهة ثم التفت إلى «فرتز» وألقى عليه نظرة طويلة وقال له: هل دفنتموها؟ فأطرق «فرتز» واجما وقال بصوت خافت: نعم يا سيدي منذ الأمس، قال: وأين طفلتها؟ قال: قد كفلتها «جوزفين» وهي تتولى إرضاعها مع طفلها، قال: وأين ذلك الكتاب؟ قال: ها هو ذا يا سيدي، وأعطاه إياه، فأمره بالانصراف إلى منزله، فانصرف هو وأسرته، فلما خلا «استيفن» بنفسه أخذ يقرأ الكتاب ونفسه تتطاير لوعة وأسى، حتى فرغ منه، فبكى ما شاء الله أن يفعل، ثم أخذته كظمة شديدة، فذهل عن نفسه وظل مستغرقا في ذهوله بضع ساعات حتى انتصف الليل، فثار من مكانه بغتة وكأنما طاف بعقله طائف من الجنون، وخرج إلى الحديقة فمشى في أنحائها يتسمع فلم يشعر بحركة، ورأى البستاني نائما في غرفته ورأى فأسه على بابها، فتناولها وفتح باب الحديقة بهدوء وخرج، فلما استقبل الفضاء أخذ سمته إلى المقبرة حتى بلغها، وكان الجو مكفهرا والريح عاصفة، والسحب تحجب وجه القمر ولا تنحسر عنه إلا حينا بعد الحين، ثم لا تلبث أن تعود إلى تراكمها وتكاثفها.
Halaman tidak diketahui