وخلت بنفسها تتذكر أيامها وعهودها، وتناجي همومها وأشجانها، وتذرف آخر ما أبقي لها في أجفانها من دموع، ومن هو أولى بالبكاء والهم منها وقد ضربها الدهر بجميع ضرباته، وتنكر لها كل وجه من وجوه الحياة، فهجرها زوجها، وخانتها صديقتها، ونقم عليها الرجل الذي تحبه، وفقدت الثروة التي بذلت في سبيلها سعادتها، وأصبحت لا تستطيع أن تطلب الراحة من طريق الموت؛ لأنها لا تستطيع أن تقتل ولدها، ولا أن تجدها في الحياة لأنها لا تملك ما تستعين به على عيشها، وما هي إلا أيام قلائل حتى جاءها المخاض فلم يحضرها غير زوجة البستاني وعجوز من جاراتها القديمات، فولدت طفلة جميلة لم تبتسم عند رؤيتها إلا لحظة واحدة، ثم أخذت تبكيها بكاء الثاكل وحيدها ساعة موته، وما كادت تنهض من نفاسها حتى جاءها الخبر بأن «إدوار» قد انتحر شنقا في فندق من فنادق «شيكاغو» كان ينزل فيه منذ سافر إلى أميركا، على أثر ليلة قضاها في المقامرة، وخسر فيها جميع ما كان بيده من المال، فسقطت عند سماع الخبر مغميا عليها وهي تقول: «وا يتم ولداه!»
ثم استفاقت بعد حين فإذا هي تمثال صامت جامد، لا تنطق ولا تبكي، ولا تشكو ولا تتألم، ولا تضم طفلتها إلى صدرها إلا إذا أزعجها بكاؤها، ولا تطلب الطعام في غداة ولا عشي، ولا تتناول منه حين يقدم إليها إلا المضغة أو المضغتين، ترفع يدها عنه، وتمر بها الساعات الطوال وهي ذاهبة ببصرها في السماء، لا يعلم إلا الله أين تذهب، ولا أين تتغلغل نفسها في ظلمات هذا الوجود، فإذا ثابت إليها نفسها سألت البستاني هل أتاها كتاب، أو سأل عنها أحد؟ فيجيبها: أن لا، فتعود إلى صمتها وذهولها. (93) قلب استيفن
أصبح «استيفن» بعد انتفاض جرح قلبه عليه في تلك الليلة التي حادث فيها ماجدولين ثائرا مهتاجا، لا يهدأ ولا يستريح، ولا يسكن إلى نوم ولا يقظة، ولا يهنأ باجتماع ولا خلوة، فبدا له أن يسافر إلى بعض مقاطعات الشمال ليروح عن نفسه همومها وآلامها، فسافر سفرة طويلة زار فيها كثيرا من المدن واجتمع بكثير من علماء الموسيقى والمغنين وكتاب الروايات الغنائية الذين سمعوا به ولم يروه، فاحتفلوا به احتفالا عظيما، وأجملوا مودته وعشرته، ونظم في تلك السفرة بعض القطع الشعرية الجميلة ولحنها، ولحن كثيرا من أغاني الروايات التمثيلية التي لا تزال خالدة حتى اليوم، فازداد صيته انتشارا، وبلغ من العظمة أوجها الأعلى، وأجمع الذين سمعوا غناءه أو توقيعه أن سماء ألمانيا لم تطلع فيها منذ مات «بيتهوفن» شمس مثل شمسه، ولا أشرق فيها نجم أسطع من نجمه، وظل في سياحته هذه بضعة أشهر حتى ورد إليه في أحد الأيام كتاب من أحد أصدقائه في «كوبلانس» يخبره فيه خبر «إدوار»، ويقص عليه قصة سفره وانتحاره فحزن عليه وعلى مصيره حزنا شديدا، وبكاه بكاء الوفي الكريم الذي لا يأبى أن ينسى في موقف الموت كل شأن من شئون الحياة، ولم يذكر له في تلك الساعة من ماضيه إلا شيئا واحدا فقط، وهو أنه كان صديقه ورفيق طفولته وصباه، وأنيس وحدته في أيام بؤسه وشقائه، لا يزيد على ذلك شيئا، ورأى أن لا بد له من العودة ليرى ما حل بماجدولين بعد نزول تلك النكبة بها، وليمد إليها يد معونته في بأسائها التي صارت إليها، فسافر إلى «كوبلانس» فقضى فيها ليلة، ثم ذهب إلى «جوتنج» وظل يتسقط أخبارها حتى عرف عنها كل شيء، وعلم أنها تعيش مع طفلتها عيش البؤس والشقاء في الغرفة العليا التي كان يسكنها من بيتها الأول، فنسي في تلك الساعة موجدته عليها، واستحال غضبه ونقمته إلى رحمة وشفقة، فركب عجلته في الصباح وسافر إلى «ولفاخ» حتى بلغها ضحوة النهار، فأخذ في طريقه إلى بيت الشيخ «مولر» حتى بلغه، فسأل البستاني عنها، فقص عليه مجمل قصتها، ووصف له حياتها الغريبة التي تحياها منذ عادت إلى القرية، وذكر له صمتها وسكونها، وذهولها واستغراقها، واستبداد الهم بها استبدادا يكاد يقتلها، ويأتي على حياتها، فقال له: استأذن لي عليها فإني أحب أن أراها، قال: إنها تقضي أكثر أوقاتها جالسة على ذلك المقعد الذي كنتما تجلسان عليه معا في أيامكما الماضية، وقد تركتها الساعة هناك، فاذهب إليها إذا شئت، فمشى إليها حتى رآها جالسة على الهيئة التي وصفها الرجل، فلم تشعر به حتى صار أمامها، فانتفضت إذ رأته انتفاضة تزايلت لها أعضاؤها، وتساقطت فيها نفسها، فلم تستطع النهوض من مكانها، وأرتج عليها فلم تنطق بحرف واحد، فجلس بجانبها وقلبه يذوب حسرة وأسى، وأخذ يعزيها عن نكبتها، ويتوجع لما حل بها، ويعظها بالصبر على مصابها، فثابت إليها نفسها شيئا فشيئا، ونظرت إليه نظرة منكسرة وقالت له: قد كنت أحتمل هذه النكبات كلها بصبر وجلد لو أنك عفوت عني يا «استيفن».
فأطرق مليا ثم رفع رأسه إليها وقال لها: أما العفو فإني لا أستطيعه؛ لأنني لا أستطيع أن أنسى، فاصفر وجهها اصفرارا شديدا، وشعرت أن روحها تتسرب من بين جنبيها قطرة قطرة، ونظرت إليه بعينين يترقرق في انسيابهما الدمع وقالت له: ألا يذكرك يا «استيفن» هذا المكان الذي نجلس فيه بشيء من ماضينا؟ قال: لا يذكرني إلا بشيء واحد، وهو أني شهدت فيه ذلك المشهد الذي فجعني في جميع أماني وآمالي، وقتل قلبي قتلة لم يحي من بعدها حتى اليوم، قالت: إنك تقسو علي كثيرا يا «استيفن» ولو شئت لرحمتني وأشفقت علي.
فنظر إليها نظرة شديدة وقد تمثلت أمام عينيه جميع آلامه الماضية دفعة واحدة وقال لها: ذلك شأن المرأة في كل زمان وفي كل مكان، تزعم أنها ضعيفة واهنة، وأن الرجل قوي مقتدر، فهي تسأله عن كل شيء ولا تسأل نفسها عن شيء، ألم تكوني قاسية علي يوم تركتني في هذا المكان وحدي منذ خمسة أعوام أقاسي أعظم ما قاسى امرؤ في حياته من الهموم والآلام، وأخذت بيد خطيبك على مشهد مني ومرأى وذهبت به إلى غرفتك دون أن تلتفتي إلي التفاتة واحدة لتري ما حل بي من بعدك، وهل أنا باق على قيد الحياة أم ذهبت النكبة بما بقي من رمقي؟ ألم تكوني قاسية علي أيام أرسلت إليك تلك الرسائل التي ضرعت إليك فيها ضراعة لا تحتملها نفس من نفوس البشر فأغفلتها وأهملتها ولم تعبئي بدموعي الغزار التي سكبتها فيها، ولم تكتبي إلي إلا كلمة واحدة بعد حين قطعت بها آخر خيط كان في يدي من خيوط الرجاء؟
إنني لا أزال أذكر حتى الساعة أنك سألتني في تلك الرسالة أن أتناسى ذلك الماضي وأن تحل الصداقة بيننا محل الحب، فها أنا ذا قد جئت إليك باسم تلك الصداقة التي تواثقنا عليها منذ ذلك العهد أتفقدك وأتعهد شأنك، وأهيئ لك حياة هنيئة تحيينها مع طفلتك في أي مكان تشائين آمنة غدرات الدهر ونكباته ما مد الله في أجلي.
فاستعبرت باكية ومدت يدها إليه ضارعة وقالت: أهذا كل ما بقي لي في قلبك يا «استيفن» فهاجت وجده مدامعها، وانبعثت من مكامنها في لحظة واحدة جميع عواطف قلبه المختلفة، وظلت تتداول نفسه واحدة بعد أخرى، فذكر حبه إياها، وحاجته إليها، وأنه لا يستطيع أن يعيش سعيدا في الحياة بدونها، ثم ذكر خيانتها وغدرها، وقسوتها عليه، وزرايتها به وبآلامه ودموعه، فمحت عاطفة الغضب من نفسه عاطفة الحب، ولكنه ما لبث أن رأى دموعها المنهمرة على خديها، ومنظر بؤسها وشقائها، ويديها الممدودتين بالضراعة إليه، حتى عاد إلى عطفه وإشفاقه، وحدثته نفسه أن يأخذها بين ذراعيه، ويضمها إلى صدره، ويقول لها: قد نسيت كل شيء يا ماجدولين، فتعالي إلي، فإنني لا أستطيع أن أعيش سعيدا في الحياة بدونك، ثم مرت بخاطره مرور البروق تلك الساعة التي وقف فيها على باب غرفتها ليلة عرسها وسمعها تلقي بنفسها بين ذراعي زوجها وتقبله وتستقبل قبلاته، فثارت في نفسه عاطفة العزة والأنفة التي لم تفارقه في يوم واحد من أيام حياته وقال في نفسه: إنني لا أمد يدي إلى فضلات الرجال، ولا ألبس أكفان الموتى.
وكذلك ظل يتقلب ساعة بين أيدي هذه العواطف المختلفة وهو صامت مذهول، وماجدولين ناظرة إلى شفتيه نظر المتهم إلى شفتي قاضيه، تنتظر تلك الكلمة التي تفصل في أمرها، فترفعها إلى سماء السعادة التي لا سماء فوقها، أو تهوي بها في مهواة الشقاء التي لا قرار لها، ثم مدت يدها إلى يده فأخذتها برفق وضمتها إلى صدرها وأنشأت تقبلها وتبللها بدموعها، فتناسى في تلك الساعة كل شيء وحنا عليها وأهوى بفمه إلى فمها، حتى إذا لم يبق بين تلامس شفتيهما إلا ممر الهواء بينهما إذ سمعها تقول له وهي ترتعد بين يديه: «أنت حياتي التي لا حياة لي بدونها.» وهي بعينها الكلمة التي سمعها منها منذ خمسة أعوام وهي تقولها لزوجها ليلة زفافها في غرفة عرسها، فما رنت في أذنه حتى وثب على قدميه وثبة الهائج المختبل وانتزع يده من يدها، ودفعها عنه دفعا شديدا، فسقطت تحت المقعد، وقال لها بصوت شديد قارع: لم يبق لك في قلبي شيء أيتها السيدة منذ ذلك اليوم الذي وضع الكاهن فيه يده على رأسك ورأس زوجك وبارككما ودقت على أثر ذلك أجراس الكنيسة مؤذنة بانقضاء كل شيء.
ثم تركها مكانها ومشى خافض الطرف، مطأطئ الرأس، حتى وصل إلى باب الحديقة فرأى البستاني واقفا في مكانه، فأخرج من جيبه كتابا مختوما وقال له: اعط هذا لماجدولين ثم ركب عجلته وذهب في سبيله.
فمشى البستاني إليها فرآها ساقطة تحت المقعد تعالج سكرة كسكرة الموت، فما زال بها حتى رجعت إلى نفسها، فأعطاها الكتاب فأخذته من يده صامتة، وصعدت إلى غرفتها وقد لبس وجهها ذلك اللون الذي يغشى وجوه المنذرين بالموت؛ فقضت ليلتها ساهرة بجانب مصباحها، تكتب مرة وتذرف دموعها أخرى، وتضم طفلتها إلى صدرها فيما بين ذلك، حتى انصدع عمود الصباح. (94) الكارثة
Halaman tidak diketahui