وفي الفقه أمثلة كثيرة من هذا القبيل، فقد رووا أن أبا حنيفة كان يقول: من غصب ثوبا وصبغه أسود فقد قلل من قيمته، وكان أبا يوسف يقول: من غصب ثوبا وصبغه أسود فقد زاد قيمته، والسبب في ذلك اختلاف الزمان والبيئة؛ لأن الدولة العباسية اتخذت السواد شعارا رسميا لها، وكان من خالفها يبيض أي: يلبس البياض فارتفع بذلك سعر الملون باللون الأسود.
وقال الفقهاء أيضا: في الأزمنة القديمة كان الرجل إذا رأى غرفة في البيت سقط عنه خيار الرؤية؛ لأن الغرف كلها متشابهة في الشكل، وبعد ذلك اختلفت البيوت فأصبح لا يسقط عن الرجل خيار الرؤية إلا إذا رأى الغرف كلها لاختلاف هندسة الغرف.
والإمام الشافعي نفسه له مذهب قديم لما كان في العراق، ومذهب جديد لما حضر إلى مصر لاختلاف البيئة، بيئة العراق وبيئة مصر، وهذه إحدى العلل الكبرى لمشروعية النسخ، وهي أن الزمن يتغير فيقتضي ذلك تغير التشريع، وقد أخذ الفقهاء والمؤرخون يبحثون في كل مائة سنة عمن يصلح أن يكون مجددا، قالوا: إنه على رأس المائة الأولى كان عمر بن عبد العزيز، والثانية الشافعي، والثالثة ابن سريج أو الأشعري، والرابعة أبو حامد الأسفرائيني، والخامسة الغزالي، والسادسة الفخر الرازي، والسابعة ابن دقيق العيد وهكذا.
والحق أن هذا التحديد نسخ للفكرة الصحيحة، تجديد التشريع كلما تغيرت الظروف، وقد يكون ذلك أكثر من مائة سنة، وقد يكون في أقل فليس من الضروري تحديد المائة بالوزن أو بالمتر، وإنما فائدة «الحديث بيان الفكرة»، وذلك لا يكون في التشريع وحده بل يكون في كل مرفق من مرافق الحياة الاجتماعية.
وهذا التجديد معناه مرونة العقل لإحلال الأوضاع الجديدة محل الأوضاع القديمة، أو تعديل الجديد ليتفق والقديم، وكانت تتوارد على الشيخ محمد عبده أسئلة جديدة لم يتعرض لها الفقهاء من قبل؛ لأن البيئة خلقتها خلقا جديدا مثل قراءة في الراديو، ولبس البرنيطة والتأمين على الحياة، وإيداع المال في صناديق التوفير وهكذا، مما لم يكن معروفا من قبل، وقد عرف جان جاك روسو التجديد بأنه «الأخذ بالمبادئ الإنسانية والمبادئ العقلية والتسامح الفلسفي، وإحلال ذلك محل الأوضاع القديمة، ومحل تقديس السلطات ومحل التعصب والضيق النظر»، ويكون التجديد في كل حالة بحسبها، وقد يجد دعاة التجديد أنفسهم أمام تيارين متناقضين فيضطرون إلى منازلتهما جميعا كالذي حدث في عصرنا في مذهب الاشتراكية، إذ رأى أصحابها أنهم مضطرون إلى منازلة فكرة الشيوعية المتطرفة وفكرة الرأسمالية الجامدة.
ويساعد على فكرة التجديد شعور الشعوب بسوء الحال، وطموحهم إلى حال خير من حالهم، ونظام خير من نظامهم، وعدل يحل محل ظلمهم لتسري الدعوة إلى التجديد وإلى التعمير سريان النار في الهشيم. ووصف سوء الحال وبث الطموح إلى خير منه هما أهم ما دعا إلى إثارة الشعوب لدعوة المهدية.
والناس في قبول دعوة التجديد مختلفون، فهناك جماعات أشد مقاومة للتجديد وجماعة أشد تلبية لها. ذلك أن الجماعات التي تكونت حديثا ولم تتقيد بقيود ثقيلة من الأوضاع كأمريكا تكون أقرب إلى التجديد، ومن كثرت أوضاعهم وقدمت كانوا أشد بطئا في قبول فكرة التجديد، وما مظاهر القلق والاضطراب في الأمة إلا مظاهر حرب بين جديد وقديم، وبعبارة أخرى بين قديم ظهر فساده وجديد لم يرتكز بعد، ومن المظاهر البينة أن مرافق الحياة جديدها وقديمها في كل شعب تتفاعل كما تتفاعل المواد الكيميائية، حتى يتم بينها الانسجام فإذا دخل التجديد في مرفق، فسرعان ما تنفعل لذلك سائر المرافق، كحوض الماء يصب فيه ماء بارد وماء ساخن، فسرعان ما يكتسب البارد السخونة والساخن البرودة حتى يتكون منهما ماء في درجة حرارة واحدة، والفرق بين الدعوة إلى التجديد والدعوة إلى المهدية أن الأولى ترتكز على العقل، وعلى تجارب الحياة وعلى الواقع، أما الدعوة الثانية فترتكز على عقيدة دينية فقط بإمام منتظر، وأن السلطة السماوية هي التي تقربه وهي التي تؤيده ... وأما فكرة الصوفية في القطب والأبدال، فهي أن الصوفية كما تأثرت بالإسلام تأثرت أيضا بتعاليم الفلسفة، وخصوصا الفنوسطية والأفلاطونية الحديثة، وخلاصتها أنه في القرن الثاني الهجري حينما ترجمت كتب الفلسفة إلى اللغة العربية اندس من بعض الجهات أو تسربت فكرة من الأفلاطونية الحديثة من مثل نظرية الفيض الإلهي والفناء في الله، وتأويل آيات القرآن بالرموز المعنوية، فهم إذا سمعوا قوله تعالى مثلا:
واضرب لهم مثلا أصحاب القرية إذ جاءها المرسلون * إذ أرسلنا إليهم اثنين فكذبوهما فعززنا بثالث فقالوا إنا إليكم مرسلون * قالوا ما أنتم إلا بشر مثلنا وما أنزل الرحمن من شيء إن أنتم إلا تكذبون * قالوا ربنا يعلم إنا إليكم لمرسلون ، أولوها بأن لها تفسيرا باطنيا هو أن المرسلين الثلاثة هم الروح والقلب والعقل، وأن الاثنين الأولين هما الروح والقلب وهما اللذان كذبوهما، وأن الثالث هو العقل كالاعتقاد في نظرية الفناء في الله، وشرطهم أن الإنسان يجب أن تتلاشى شخصيته، وينعدم شعوره بوجوده كالذي قال: «دعني أفنى كما تفنى الأنغام في العود، فإننا إليه نعود»، وهم يدعون إلى فناء الفرد في الذات الكلية الإلهية، ولا يستطيع المكان ولا الزمان أن يحد هذه الذات المتناهية، وللمريد درجات في الفناء يترقى إليها شيئا فشيئا، ووسيلة ذلك عمق التأمل، وبعبارة أخرى المراقبة الدقيقة لحالات النفس، وينتهي به ذلك إلى غاية هي أن يصبح المتأمل فيه شيئا واحدا، وهذا هو التوحيد الصحيح.
هذه النزعة وأمثالها هي بعض نزاعات الصوفية، وبعضهم يرى أنها لا تتنافى - بل يجب أن تكون - مع التزام الشعائر الظاهرة من صلاة وزكاة وصوم وحج، وبعض الفرق يرى أن هذه الشعائر الظاهرة ليس إلا وسائل لغاية، فمتى حصلت الغاية فلا لزوم لها وأن من حق الصوفي أن يتخطى كافة النواميس الخلقية، وأن يخرج على العرف الاجتماعي.
على كل حال اندس إلى الشيعة الصوفية معا بعض هذه التعاليم، وتلاقيا في بعض هذه المظاهر فكما اعتقد المهدية في المهدي واختفائه وخروجه؛ ليملأ الأرض عدلا اعتقد الصوفيون أن هناك مملكة روحانية منظمة تنظيما دقيقا، وهي وراء هذه المملكة الظاهرة، كما اعتقد الشيعة أن لهم أئمة غير الأئمة الرسميين من أمويين وعباسيين وغيرهم، وسمى الصوفية رؤساء هذه المملكة بأسماء خاصة كالقطب والغوث والأبدال، فالقطب يمثل الإمام أو الخليفة وهو على رأس المملكة الروحانية، وأحيانا يسمونه قطبا وأحيانا غوثا، فإذا سموه قطبا فباعتبار مركزه في المملكة الروحانية وأنه على رأسهم، وإذا سموه غوثا فباعتباره ملجأ الملهوف، وقد عرفوه بأنه موضوع نظر الله في كل زمان أعطاه الله الطلسم الأعظم من لدنه، وهو يسري في الكون سريان الروح في الجسد وبيده قسطاس الفيض الأعم، وهو يتبع علمه وعلمه يتبع الحق وهو يفيض روح الحياة على الكون ومرتبته تسمى القطبية، وهو باطن روح الحياة على الكون ومرتبته تسمى القطبية، وهو باطن روح النبوة ولا تكون القطبية بعده إلا لورثته، وليسوا ورثته لصلبه ولكن ورثته ممن يستحقون هذه الولاية، وله في المملكة الروحانية نواب يسمون الأبدال، كل إقليم له بدل خاص يشرف على شئونه، وهكذا رسموا معالم هذه الولاية الروحانية، وقسموا أعمالهم وقالوا: إنها لروحانيتها معصومة كعصمة الأنبياء والأئمة، وهاموا في ذلك ما شاء لهم الخيال، فهم يضعون الخطط للعالم الظاهري؛ ليفعل ما يفعل ويترك ما يترك فسموا كثيرا من كبار الصوفية بقطب الأقطاب والقطب الرباني ونحو ذلك.
Halaman tidak diketahui