والثاني:
أنهم لما ملكوا ونجحوا فعلوا في حكمهم مثل ما فعل الأمويون والعباسيون من مظالم ونحوها، فالفاطميون أسرفوا أيضا في الترف، واستمتعوا في مصر بكل أنواع النعيم كالذي روي عن هارون الرشيد.
وكانت ثروة الفاطميين تفوق القدر ويصعب تصديقها على العقل، فيقول المقريزي مثلا: إن رشيدة بنت المعز خلفت من العملة الذهبية نحو ألف ألف دينار وسبعمائة ألف دينار عدا الجواهر والحلي، وخلفت ابنته الأخرى واسمها عبدة نحو سبعمائة وخمسين ألفا عدا الصناديق التي تحتوي على خمسة أكياس من الزمرد، وثلاثمائة قطعة فضية وثلاثين ألف ثوب صقلي، كما أن المعز اشترى ستارة من الديباج من فارس بنحو اثني عشر ألف دينار، وأولعوا بالتصوير مع أنه محرم في الإسلام فقالوا: إن اثنين من المصورين كان ينافس أحدهما الآخر هما القصير وابن عزيز، أحدهما صور الراقصة في ثياب بيض في قوس ملون بالسواد يحسبها الناظر داخلة فيه، والآخر صور فتاة بثياب حمر في قوس أصفر يحسبها الناظر بارزة منه، والخليفة الظاهر كان يعكف عن اللذائذ واللهو من خمر ونساء، ويترك أمور الدولة لوزرائه وقواده وهم يقابلونه كل عشرين يوما مرة، ثم يدعي هؤلاء النواب أنه أوعز إليهم بكل شيء، وأنه إمام معصوم متفرغ للعبادة. وقد كان يحدث هذا من الظاهر أيام كان الناس في مصر في مجاعة كبرى لا يجدون الخبز الضروري.
ولقد بدأت الدول الفاطمية في مصر ببذخ وترف، وانتهت بما يدلنا على غاية البذخ والترف، فبدأت بالهدايا التي قدمها جوهر للمعز، وانتهت ببيع صلاح الدين ما وجده في قصر المستنصر، وكل هذا التعرف والنعيم كان على حساب الشعب نفسه.
ولما حضر المعز أشار إلى طريقة حكمه إشارة مختصرة، وهي سيفه وذهبه حتى ضرب المثل بسيف المعز وذهبه، وليس حكم البلاد بواسطة السيف والذهب هو الحكم العادل الذي يطالب به المهدي المنتظر الذي يملأ الأرض عدلا، ونقرأ سيرتهم في موائدهم واحتفالاتهم، فنعجب من كثرة فخفختهم وعظمتهم وغناهم، مع ما يحكى من فقر الشعب، وكان للمعز مثلا يوم حج شمسية نصبت له مصنوعة من الذهب، مزينة بالزمرد الأخضر والياقوت، وكتب عليها آيات الحج بزمرد أخضر، وحشيت الكتابة بدر كبير لم ير مثله، حتى إنها لما جرت نصبها عدة فراشين لكثرة ثقلها، وصنع سرير الملك من الذهب، واستعمل فيه مائة ألف مثقال، وعشرة آلاف مثقال، وكل الحياة من هذا القبيل ... هذا من ناحية ترف الخلفاء الفاطميين وبؤس الشعب. ومن ناحية أخرى كم قتل الحاكم بأمر الله وكذا فعل غيره من الخلفاء، ولما تولى الظاهر الفاطمي عكف على اللهو والملذات بما لا يقل شأنا من ترف المترفين المستهترين من الخلفاء العباسيين، ولما أزال صلاح الدين ملكهم وكل بالمحافظة على قصورهم الطواشي قراقوش، وتسلم القصور وفيها من خزائن ودواوين وأموال، ونفائس ما عظم عن الوصف، وقد قالوا: إن صلاح الدين أمر ببيع ما في القصور، فاستمر البيع فيها نحو عشر سنين وكان من الموجود فيها مائة صندوق من الكسوة الفاخرة الموشحة المرصعة، وعقود ثمينة وجواهر نفيسة، وكان فيها آلاف من العبيد والخدم وآلاف من الجواري ليس فيهم فحل إلا الخليفة وأولاده، وليس هذا الغنى المفرط إلا من دماء الشعب الفقير البائس.
وكان حكم القرامطة والحشاشين لا يقل شأنا عن هذا، نعم إنهم كانوا يسوون بين الناس في الغنى والفقر، وكانوا يضربون الضرائب على الأغنياء ويصرفونها على الفقراء، ولكن لهم ناحية أخرى سيئة جدا في حكمهم وهي القسوة والقتل والتخريب والهدم، وهي أعظم فظاعة من الغنى والفقر.
قال شاهد عيان يوم دخل القرامطة الكعبة: رأيت رجلا قد صعد البيت الحرام ليقلع الميزاب، وكنت أطوف بالبيت وإذا بقرمطي سكران قد دخل المسجد بفرسه، فضفر له حتى بال في الطواف وجرد سيفه يضرب به من لحقه، وانهالوا مرة على قوافل الحجاج يسلبون وينهبون ويفسقون ويقتلون، وأتى القرامطة من الأفعال ما تقشعر منه الأبدان، وأخذوا كل ما وصلت إليه أيديهم من الحلي الثمينة والتحف القديمة التي كانت معلقة على جدران الكعبة أو محفوظة في خزائنها حتى قالوا: إنهم استخدموا نحو خمسين جملا لنقل ما نهبوه من الكعبة فقط. ومائة ألف ألف لما غنموا من مدينة مكة وضواحيها، وكان مما نهبه القرامطة الحجر الأسود كما ذكرنا من قبل، وخرجوا من مكة ينشدون علنا:
فلو كان هذا البيت لله ربنا
لصب علينا النار من فوقنا صبا
لأنا حججنا حجة جاهلية
Halaman tidak diketahui