وسنة 1833م قدم زحلة القائد طيفور بك بألف عسكري مصري، وانضم إلى الفيالق التي فيها تعزيزا للأمن وتسكينا للحركات التي كان الدروز والحرفوشيون يجرونها في ضواحيها، لتعكير صفاء الراحة وإقلاق العساكر المصرية والأمير بشير.
وكان في هذه الأثناء إبراهيم باشا يختلف إلى زحلة هو والأمير بشير وكبار رجالهما، فتمكنت المودة بينهم وبين أعيان الزحليين وأحبوهم كثيرا، واتخذ الوزير ثلاثمائة عسكري من الزحليين بقيادة الأمير خليل ابن الأمير بشير الشهابي الكبير كان يرسلهم مع عسكره كأدلاء إلى كثير من الأماكن التي يجهلونها، واستخدم من سكانها أطباء في جيشه وصناعا وسعاة ونحو ذلك، منهم المرحوم أبو سليمان خليل الصليبي الحلبي الأصل الذي كان من أطباء أحمد باشا الجزار في عكاء، وكان قد قدم زحلة نحو سنة 1797م، وهو أول طبيب عامي طبب فيها؛ لأن الأطباء كان أكثرهم من الرهبان، ولن تزال سلالته فيها إلى يومنا باسم بيت أبي سليمان (بو سليمان ). ومن نكات الوزير اللطيفة معه أنه استدعاه يوما إلى المعلقة لتطبيب جندي يحبه، فلما رآه قال له: إنه يموت بعد ثلاث ساعات ولا فائدة من علاجه، فألح عليه بتطبيبه؛ لأنه كان عزيزا عنده، فكرر له كلامه الأول أنه سيموت بعد ثلاث ساعات، فقال لحاجبه: أوقفه حتى نرى إذا مات الجندي أجيزه وإلا اقطع رأسه. فمات الجندي بعد مرور ثلاث ساعات إلا بضع دقائق، فأعجب به وأجازه هو وولده إبراهيم بقبضة من الرباعي المجنزرة (المزنجرة) وصرفهما، وكان يعتمد عليه في تطبيب عساكره، وعند غياب أطبائه الذين كان رئيسهم كلوت بك الشهير مؤسس هذا الفن في مصر، ومنهم الدكتور مخايل مشاقة الشهير.
واتخذ قينا (قردحجيا) لأسلحته حنا مخايل عطا والد الطيب الذكر المطران غريغوريوس وموسى ابن شقيقه إبراهيم، الذي فاق عمه بمهارته في هذه الصناعة حتى أن الوزير كان إذا احتدم القتال، وأراد أن يحث (ينخي) جنده على إطلاق البنادق يقول لهم: «انزلوا بزناد موسى» أي أطلقوا رصاص البنادق التي زنادها (ديكها) عمل موسى عطا. وكان من سعاته درويش فرنسيس المعلوف الذي كان مشهورا بأمانته وسرعة سيره، فكان يبعث به إلى عكاء ودمشق وحمص وطرابلس، فيذهب ويعود بسرعة عجيبة؛ ولذلك لقب «الفرخ» لخفته ونشاطه، وكثيرا ما كان يقطع المسافة بين زحلة وعكاء بيوم واحد ولا سيما في الليل، فأجزل الوزير له العطايا واستأمنه برسائله الرسمية ومهماته وله معه أحاديث غريبة. ولما احتفر المعادن في مرجبا وقرنايل من متن لبنان ومشغره من البقاع، كان بنو الجريصاتي في زحلة المشهورون بصناعة الحدادة في مقدمة المشتغلين بمسابك الحديد والمصلحين الآلات الحربية. وكان مهنا بالش يشتغل السيوف والسكاكين ويصقلها، وقد تعلمها من رجل عجمي جاء زحلة، وكذلك أنطون وشقيقه مخايل الصيقلي كانا يشتغلان بالسيوف والجوارح حتى إن مخايل صك النقود، فقطعت الحكومة إبهام وسبابة يده اليمنى فلقب باسم «قريطم»، ولن تزال سلالته بهذا الاسم في زحلة وسلالة أخيه باسم الصيقلي. وكان كثير من أعيان الزحليين يضمنون نفقات الجنود المصرية، ويقدمون لهم حاجاتهم من مأكل ومشرب مثل بطرس أبي ظاهر المعلوف وشقيقه مخايل الملقب بأبي علي وعبد الله بو خاطر ويوسف العن وجرجس الزرزور وجرجس القرعان وغيرهم. إلى غير ذلك من الصناعات والأعمال التي اعتمد فيها على الزحليين.
وفي هذه السنة شيدت الرهبنة الحناوية الكاثوليكية كنيسة القديس أنطونيوس في قلب المدينة فوق الجسر القديم ولن تزال هناك، وهي آخر كنيسة رهبانية شيدت في زحلة؛ لأن المطران أغناطيوس العجوري أسقف المدينة اشترط على جميع الرهبنات الكاثوليكية أن لا تبني كنائس بعد هذه.
وفيها قدم زحلة الطيب الذكر البطريرك مكسيموس مظلوم على أثر عودته من أوروبة سنة 1831 فاستقبل استقبالا حافلا، وكان معه ثلاثة من الآباء اليسوعيين، وهم الأبوان مبارك بلانشة وبولس ريكادونا والشماس ناصر وضعهم في عين تراز، فوهبهم الأمير بشير الشهابي بواسطة السيد أغناطيوس أسقف زحلة، الذي كانوا يختلفون إليه في تلك الأثناء قطعة أرض في ذيل الجبل في معلقة زحلة، حيث لم يكن هناك أبنية وكانت ملك الأمير، فشيدوا على نفقته دير القديس يوسف، وهو أول دير لهم في سورية ولبنان في القرن التاسع عشر، وكان الأمير حيدر إسماعيل اللمعي قد وهبهم أرضا في بكفيا وساعدهم ببناء دير لهم فيها. (5) موقعة جسر السن
وسنة 1834م لما استتب الحكم لإبراهيم باشا المصري في سورية أخذ يجند الأهلين، فعصى سكان بلاد الحصن وعكار وصافيتا ومعظمهم من النصيرية ، وكان سليم بك أحد قواده الأبطال في تلك الجهة بفيلقه، فطلب الوزير من الأمير بشير نجدة له، فأرسل ألفي مقاتل بقيادة ولده الأمير خليل، ثم أردفها بنجدة ثانية أكثر من خمسمائة مقاتل من زحلة وبسكنته وكفر عقاب بقيادة هيكل ابن إبراهيم مسلم أحد شيخي زحلة الملقب بأبي محمود، وكان حامل الراية (البيرقجي) يوسف طعمة عبود، فأخذ هؤلاء لهم طريقا مختصرا فوصلوا إلى جسر نهر السن مقابل تلك البلاد على بعد من طرابلس الشام، ونصبوا عليه رايتهم اللبنانية، فرآهم النصيريون من أهل الطروطة وبيت ياشور والقراضة، الذين كانوا كامنين مقابلهم تحت السريس
4
لقطع طريق الجسر على العسكر المصري، فأرسل هذا العسكر اللبناني الزحلي طليعة منه تستكشف العدو بقيادة يوسف الراعي، فلم يروا أحدا؛ لأن النصيريين خفتت أصواتهم وخفيت مخابئهم على الطليعة، فعادت إلى العسكر وأخبرتهم أن ليس من مقاتل هناك من الخصوم، فجلسوا إذ ذاك ليستريحوا ويأكلوا وقد كلوا من المسير وخارت قواهم جوعا، فاغتنم النصيريون فرصة اشتغال العسكر المتني الزحلي بالطعام، وانهالوا عليهم بالرصاص من طي مكامنهم وهؤلاء لا يرونهم، فانذعروا لساعتهم، وقاموا عن طعامهم وهم يشتهونه، وهجموا إلى جهة الجسر المقابلة، فكثر انهيال الرصاص عليهم وأصاب منهم المقاتل فاندحروا لساعتهم؛ لأنهم كانوا يرون الرصاص كالمطر ولا يعلمون مصابه، فتأثرهم فرسان النصيريين الذين كانوا يحمون الكمين، وأعملوا السلاح في أقفيتهم، فقتلوا منهم كثيرين بينهم نحو عشرين من الزحليين وعشرة من بسكنته. وبينما هم هاربون والنصيريون يتأثرونهم أدرك قائدهم رجلا من كفر عقاب اسمه نقولا القن المعلوف في مضيق لم يجد هذا منه مهربا، فأثنى نقولا على القائد النصيري بحسامه، فقطع قوائم جواده وأوقعه على الأرض فقتله، وكان هذا قائد تلك الشرذمة المدرب. ثم صاح نقولا بقومه وحثهم على الارتداد على خصومهم الذين ذعروا لقتل قائدهم فانثنى اللبنانيون، وردوا النصيريين على أعقابهم، وأثخنوهم جراحا وتأثروهم. وكان الأمير خليل قد أنجدهم بثلاثمائة مقاتل انضموا إليهم، فدخلوا البلاد وعاثوا فيها ونهبوا نحو خمسين من قراها وأحرقوها وغنموا كثيرا.
5
وكان مجموع القتلى من المتنيين نحو مائة ومن النصيريين عددا وافرا. وممن عرفناهم من قتلى زحلة أرميا أبو طقة وطنوس ابن أخيه ومخول الغسطاوي ويوسف حريز وإلياس أبو سمعان حجي وجرجس خير، ورجلان آخران أحدهما من بني الحمصي والآخر من بني القاصوف وغيرهم. أما يوسف طعمة حامل الراية فجرح على الجسر ورمى بنفسه إلى النهر، وهيكل إبراهيم مسلم قائد هذه الحملة جرح أيضا.
Halaman tidak diketahui