وشتاؤها قد يكون باردا كثير الثلوج قارص الهواء جدا، كما كان قبلا منذ سنين، وكما هو في هذه السنة. وقد يكون معتدلا كما في غيرها. وقد تكتسي مشارف المدينة حلة بيضاء ترسل أهدابها إلى حضيض الوادي، فتطول إقامة الثلج ولا سيما في الضفة الجنوبية، فيحفظها الجمد (الجليد). وقد تمزق الشمس ذلك الرداء الأبيض، ويساعدها المطر فتتعرى المدينة وضواحيها منه، ولكن يبقى مطلا عليها من بعيد كالرقيب الخائف والمحب المكروه. على أن الهواء الشمالي لا يكثر هبوبه فيها، لما حصنتها به الطبيعة من التلال والآكام التي تسورها، وفي هذا تلطيف لبردها الشديد في بعض السنين. ولكن كثرة الحطب والفحم الخشبي في الأيام القديمة، مما كان في المدينة أو جلبه البعلبكيون والبقاعيون ليباع في أسواقها، كان يخفف قرص البرد بوقيده، فلما قل في أيامنا الحاضرة استبدل بالفحم الحجري وفحم كوك واستعيض عن المواقد (الكوانين) بالمصطليات (الوجاقات).
ومع كل ما ذكرنا، فقلما تصل درجة الميزان المئوي (السنتغراد) إلى ما تحت الصفر بكثير في الشتاء، وقلما ترتفع إلى ما فوق 30 درجة في إبان اشتداد الحر، فمعدل درجة البرد 8 والحر 20 في الظل. وتعصف في المدينة أحيانا الزوابع وتثور الأعاصير منتهية إليها من السهل، فتندفع عليها بقوتها وتصدم منفرجها إلى أن تنتهي إلى مآخير الوادي ومنقطعه، فتدور في أنحائها وتثير الغبار، ولكنها لا تدوم طويلا. ومما تمتاز به زحلة أنه لا يتراكم فيها الضباب في أثناء السنة، مثلما يحدث في مشارف لبنان الساحلية التي تطل على البحر.
ولو كانت روابيها ومشارفها مشجرة؛ لكانت ظلال أشجارها تلطف حرارة الصيف وتحسن الهواء وتجمل مناظر الربيع وتعدل الأمطار والثلوج، فلا تنصب عليها السيول الجارفة ناقلة الأتربة والصخور حتى تخر منها مرافض الأودية وتتخرب البيوت والعقارات؛ بل كانت التربة تتشرب الأمطار شيئا فشيئا وتنفذ في جذور الأشجار، فتخزنها في حياضها الطبيعية وتتوازعها الأرض مستفيدة منها خصبا وافرا. وقد عرف بالتعديل أن المطر الذي يجود الغابات لا يسيل منه إلا ستة أعشاره، والأربعة الباقية تخزن إلى حين الحاجة، فضلا عن أن الأهلين يستفيدون من الأشجار ماديا، فيكثر لديهم الحطب ويتوفر الوقيد وتكثر الأخشاب والألواح للنجارة ونحوها.
أما الربيع فقد يكون في بعض السنين باردا لكثرة الثلوج والأمطار، ولكنه في الغالب بديع لكثرة المياه والمتنزهات، مع جفاف في الهواء يبعث في الجسوم نشاطا، وهو يتميز تميزا ظاهرا ويقوي الأبدان؛ فلذلك تجد الزحليين أقوياء البنية صحيحي الأجسام مفتولي العضلات، تترقرق على وجوههم مياه العافية، وتشف وجناتهم عن قوة الدم في أبدانهم.
ومن غريب ما يؤثر من جودة الإقليم في زحلة صفاء الجو ليلا، حتى إنك ترى السماء عريانة معظم السنة، والكواكب نيرة متوقدة وصورها ماثلة بأحسن مظاهرها الفتانة، حتى إن مذنب هلي الذي ظهر في الصيف الماضي كان بديع الطلعة فيها؛ ولذلك اتخذ الآباء اليسوعيون مرصدا في سفح تلة كساره الواقعة على المنقلب الجنوبي من تلة المدينة الجنوبية بإدارة الأب برلوتي الفلكي الفرنسي المشهور منذ ثلاثة سنوات، وهو مبني بأمكنة متفرقة على آخر طرز حديث، مجهز بالآلات اللازمة، وذلك لأن الرصد في هذه الجهة يكون على أتم وضوحه؛ لقلة الأبخرة التي تعكر صفاء الجو، ولجفاف الهواء الذي لا تحول رطوبته بين المراقب (التليسكوبات) والكواكب المرصودة، ولهذا وصفت هذا الجو الجميل بقولي في ليلة صافية الأديم:
يا حسنها من ليلة لما انجلت
كسي المحاسن جوها العريان
فالكائنات تنام في مهد الدجى
ورقيبها هو كوكب يقظان
ولقد حسن هواء المدينة الآن اتخاذ القنوات لفضلات أقذارها، وتجفيف غاب عميق وقلة مستنقعاته، واعتناء الأهلين بالكنس والرش. ولم تكن هكذا في القديم حتى دهمها الطاعون مرارا وأفنى كثيرا من سكانها، وكان آخر عهدها به سنة 1828م، ولما حدث أول هواء الأصفر في دمشق هرب سكانها إلى زحلة في صيف سنة 1848م؛ فأصيب من الزحليين ثلاثة، ونقلت إليهم العدوى في 26 آب ومات منهم اثنان. وفي اعتقاد سكانها ومجاوريهم أن الهواء الأصفر لا يتفشى فيها؛ ولذلك كثر المختلفون إليها في كل وباء يجتاح سورية ومصر.
Halaman tidak diketahui