إلى هذا الحد يبلغ عدم ثقتنا بأنفسنا، فنحن مثل الأجداد بشر، وقد كانوا بشرا، وعاشوا حياتهم وتصرفوا فيها «وكانوا أعلم بشئون دنياهم»، وأصبحت حياتهم وتصرفاتهم «تراثا»، هذا صحيح، ولكننا أيضا لنا حقنا في أن نعيش مثلهم ونتصرف حسبما تمليه علينا ظروف حياتنا الراهنة «ونحن أعلم بشئون دنيانا» بحيث تصبح حياتنا وتصرفاتنا تراثا أيضا للأجيال القادمة التي لا بد لها هي الأخرى أن تحيا حياتها وتتصرف تصرفاتها.
ولكنهم يردون عليك ويقولون هذا خروج ومروق سينتهي بك إلى أن تترك الدين، هذه قضية لم أفهمها أبدا، وأعتقد أنني لن أفهمها، هل التمسك بالدين يعني أن تحيا مثلما كان يحيا الناس أيام معاوية وأيام العباس مثلا، وإلا خرجنا على الدين؟ ما علاقة الدين وهو إيمان كامن في النفس وفي القلب لا يتزحزح، ما علاقة هذا بأن أركب سيارة بدلا من الجمل، أو أن آكل هامبرجر من لحم البقر بدلا من الخروف (والفتة)؟
المهم لي عامان وأنا أحضر ذلك المهرجان والمعركة لا تزال محتدمة بين أنصار الجمود وأنصار التقدم، يا إلهي، إن المشوار أمامنا طويل! •••
كان ذلك الرجل الذي لفت انتباهي هو وزير الثقافة المغربي ، وهو مثل زميلي فاروق حسني عندنا، نموذج فاخر للمثقف المتعدد الاهتمامات والقدرات، هذا الرجل كان هو وصديق عمره (الذي أصبح وكيلا لوزارة الثقافة المغربية) يعملان في الأمم المتحدة في نيويورك لمدة عشرين عاما متوالية، وفجأة قررا أن يتركا العمل في أمريكا ويعودا معا إلى بلدهما المغرب، بل ليس حتى إلى المغرب، وإنما إلى مسقط رأسيهما في قرية «أسيلة» وهي قرية صغيرة على المحيط الأطلنطي، قرية فقيرة يعمل معظم سكانها بالصيد، وكأي قرية صغيرة في العالم الثالث لم يكن بها ماء نقي أو كهرباء أو تليفونات أو أي شيء ... هذا الرجل (محمد بن عيسى) قرر أن يحيل القرية إلى جنة من جنات الله بعد عودته من أمريكا، قرار رجل واحد أو رجلين، لو أن كل مثقف في العالم العربي قرر أن يفعل مثلهما لأصبح العالم العربي جنة، وبدأ بالاستعانة بنفر من زملائهما من الفنانين، بجمع نقود قليلة تمكنا بها من طلاء القرية باللون الأبيض الجميل، وبهذا الطلاء فقط تحول موقف أهل القرية من هؤلاء المثقفين الأفندية الغرباء، وبدءوا يسمحون لأولادهم سواء أكانوا تلامذة أم غير تلامذة أن يعملوا معهم بالاستعانة بهؤلاء الأولاد: بدأ الأفندية ينظفون شوارع القرية، ثم بواسطة بعض التبرعات يحفرون بئرا للماء، ويدخلون «موتور» كهرباء، فيضيئون القرية، ثم بدأ الفن: استقدموا أصدقاءهم الفنانين من الدار البيضاء مراكش، وعهدوا إلى كل منهم برسم حوائط القرية، بل حتى برسم شوارعها بعد سفلتتها، ولكي يتموا هذا العمل الكبير كان عليهم أن يرشحوا أنفسهم للمجلس البلدي للقرية (تعداد القرية اثنان وعشرون ألفا) ونجحا في الانتخابات بعد كفاح رهيب طبعا، فتراث القرية المعتادون على تولي مناصب المجلس البلدي بحكم النفوذ أبوا أن يفسحوا المجال لهؤلاء الغزاة الجدد المسلحين بالفن والفكر والرغبة الشديدة في التغيير، وحين تمت لهما السيطرة على المجلس البلدي، استعانا بقوة المجلس وأمواله في إحداث هذا التغيير، وفعلا، وبعد أقل من عامين كانت «أسيلة» قد أصبحت جنة، أو متحفا حيا للجمال يضم الزرع الأخضر واللوحات على الجدران وعلى الأرض. وهنا بدأت الحكومة المركزية تفطن إلى هذا الحدث وتحاول الاستيلاء عليه وتحويل «أسيلة» إلى قرية سياحية، وهنا وقف محمد بن عيسى وصديقه، أو بالأصح ناما بالطول عند مدخل القرية وأبيا أن يدخلها سائح واحد؛ قال لي محمد بن عيسى: كنا لا نريد أن نحول أنفسنا وأهل القرية إلى قرود في حديقة حيوان يتفرج عليها السياح، كنا نريد أسيلة لنفسها ولأنفسنا، وقلنا على جثتنا إذا مر سائح واحد.
وفعلا لم يمر سائح واحد ووصلت المعركة إلى الملك الحسن الثاني فاستقدم هؤلاء الفتية وكان أن عهد إلى محمد بن عيسى بوزارة الثقافة.
والذي حدث أن محمد بن عيسى طور الفكر وتفتح ذهنه عن إقامة مهرجان أسيلة للفنون والآداب كل عام، وأقيم المهرجان وأصبحت حديث أوروبا وأمريكا، انتقلت من قرية صيادين في العالم الثالث إلى لوحة عالمية يرنو إليها أي أوروبي أو غير أوروبي، يرغب أن يراها رأى العين.
أرأيتم ما أقصده ... إن مجهود فرد واحد أو فردين مخلصين ممكن أن يحولا قرانا الموحشة إلى جنات ... فقط أين الإرادة. •••
أكتب هذا وأنا في طريقي إلى أجادير أو أغادير، تلك المدينة البطلة التي وقفت في وجه الاستعمار، مثل بورسعيد، موقفا بطوليا عظيما، ثم بعد زوال الاستعمار الإسباني والفرنسي، أصبحت مدينة سياحية عالمية، وحيث أنهيت أعمال مشاركتي مع المجلس القومي للثقافة في المغرب في اللجنة التحضيرية للمهرجان القومي الثقافي العربي الذي سيعقد في أغادير في أكتوبر القادم بإذن الله، ها أنا ذا في طريقي لمشاهدة معالم المدينة وقضاء إجازة يومين قبل العودة للقاهرة؛ لكي أشهد أعظم حدث روحي، حلول رمضان المعظم في قاهرة المعز.
رسالة من الجنادرية
لا أعتقد أن الإنسان منا يتحكم في حياته تماما، وفي الأسبوع الماضي فتحت موضوعا مهما - كان له صداه الغريب لدى القراء - وكان مفروضا في مفكرتي لهذا الأسبوع أن أتابع الموضوع وأخبر القارئ بآخر ما توصلت إليه حياله، ولكن الأقدار كانت تخبئ لي شيئا آخر؛ إذ كان الميعادان قد حلا معا في وقت متقارب جدا، وكنت قد كتبت ووافقت منذ بضعة أشهر على حضور مهرجان الجنادرية الذي يعقد في الرياض، وعلى الاشتراك في التحضير للمؤتمر الثقافي القومي الذي يعقد في المغرب في أكتوبر القادم إن شاء الله، وبدأت التليفونات والاتصالات والتذاكر المعدة سلفا، وكان لا بد أن أسافر وفعلا قررت حضور الجنادرية أولا ثم الطيران رأسا إلى المغرب لحضور الاجتماع، ولكن طول الوقت كنت مشغولا بقضية الطالب محمد حامد الحمامي ومشكلة فصله من معهد الفنادق في بورسعيد إثر محاولته تعليق صور للانتفاضة الفلسطينية، وها أنا ذا من الرياض أتابع الاتصال بمكتبي في الأهرام، وعلمت أن الدكتور فتحي سرور قد اتصل بي ووعد بالتحقيق السريع في القضية، ثم جاءتني مكالمة من اللواء زكي بدر وزير الداخلية، ولأن الاتصال لم يحدث، والمتصل كان مدير مكتبه؛ فلم أعرف بالضبط ماهية الرسالة، كل ما أعرفه أن لدى عودتي القريبة إن شاء الله سأتابع القضية معهما، لا لكي أطمئن على مصير الطالب محمد حامد الحمامي فقط، ولكن لكي نشترك جميعا في وضع بروتوكول للنشاط السياسي المشروع الذي لا بد أن يقوم به الطلبة والشباب؛ فالعقل الحاكم الحديث يعتبر أن المظاهرات السياسية والمؤتمرات المنظمة وكافة الأنشطة النقابية والشعبية هي مصدر من مصادر القوة لديه، وأمامنا المثل في إسرائيل، تلك التي تلعب هذا الدور بمهارة شديدة، فهي تترك فيضان مظاهرات «السلام الآن» تهتف ضد الاحتلال الإسرائيلي للضفة ولغزة، في نفس الوقت الذي تفتح فيه القنابل والرشاشات على الشباب والفتيات العرب المتظاهرين، وسماح الحكومة الإسرائيلية لمظاهرات ونشاطات جماعات «السلام الآن» هو خير دعاية - من ناحية أخرى - لديمقراطية الحكومة الإسرائيلية تجاه مواطنيها الإسرائيليين فقط لكي تخفي بهذه الديمقراطية الفاشية التي تعامل بها المواطنين الفلسطينيين العرب.
Halaman tidak diketahui