إن أولى بوادر الانتصار هي الكف عن مخادعة النفس، والاعتراف أنك هزمت، وأولى بوادر النجاح هي إيقاف التحجج بالأسباب الواهية والاعتراف بأنك رسبت، فحين يدرك الإنسان أنه فعلا يعاني هزيمة، وأنه فعلا قد فشل في تحقيق الهدف فإن الطبيعة الإنسانية سرعان ما تكتسب القدرة على التحدي، وتتشكل لها من داخلها قوة مارد أعظم تبادر إلى الاستعداد للتحدي القادم، ومن ثم إلى النجاح والانتصار، ولولا أننا اعترفنا بأننا هزمنا عام 1967، بل وجاء هذا الاعتراف على لسان قائدنا العظيم نفسه، بل واعتبر أن الهزيمة هي أولا هزيمته شخصيا، وبادر وأعلن أنه مسئول عنها، لولا هذا ما ركبتنا روح التحدي ولما بدأنا الاستعداد الجدي للمعركة المقبلة، ولما بلغ التحدي مدى جعل الجيش المصري الباسل ينطلق كالمرجل المغلي يحطم خطوط أعدائه ويلحق شر الهزيمة بهم. •••
نعم، إن كل الأعراض على ساحتنا العربية تؤكد، لكل ذي عينين، ولكل أعمى أنها علامات هزيمة لا يعانيها عالمنا العربي فقط، ولكن العالم الثالث كله يعانيها.
وإذا كانت تلك الهزيمة قد أخذت شكل الصراع بين الطوائف في بعض بلادنا العربية، وشكل الحروب بين نظم ونظم، وشكل عملاء يحكمون ووطنيين يحكم عليهم، شكل سيادة الفرقة والتعصب، شكل الهروب من الجهاد في سبيل الله إلى الإغراق في شرح النحو والصرف وسحب روح التضحية والفداء والإيمان من ديننا الحنيف وتحويله إلى ما يشبه التعاويذ، وموضات الأزياء والحجاب، وإسقاط هزيمة الرجال على جنس النساء واعتباره أنه الجنس الخاطئ والمذنب والمثير للفتنة على الأرض (أي إحلال نسائنا الفاضلات محل الاستعمار والصهيونية في غرس الفتنة وتضليل الجماعة وإغواء الفرد).
إذا كانت الهزيمة على المستوى العربي العام قد أخذت هذا الشكل، فهي في مصر قد أخذت طابعا - في رأيي - أكثر خطرا؛ إذ هي أوصلت الإحساس بالهزيمة إلى قلب وعقل الفرد نفسه، إن لا مبالاتنا، إن فتورنا، إن يأسنا، إن كرهنا لبعضنا البعض، إن معصياتنا في حق أنفسنا وفي حق دولتنا التي كثر فيها: نهب الأموال، وشيوع الارتشاء، والتكالب على الطعام والشراب واللذة المريضة العابرة.
بل أن يؤدي الحال إلى أن تصل الهزيمة إلى الحد الذي أصبح أسهل شيء للمواطن المصري أن يقول: ليس هناك من فائدة ترجى. وسعد زغلول قال: ما فيش فايدة، ومصر حالة ميئوس منها، أو أن يصل إلى الحد الذي أصبح منتهى الأمل الهجرة والإقامة في مجتمع يتمتع بالنظام والصحة والعدل والتقدم، إلى أن تيأس تماما وتكفر، كل على حدة. إننا ممكن أن نصنع من أنفسنا شيئا، ومن بلادنا دولة قوية قادرة، ومن ديوننا وفرة نرفع بها عن كاهلنا عبء اليأس والمذلة والخضوع.
ذلك هو الشكل وتلك هي الأشكال التي أخذتها الهزيمة الثالثة في بلادنا الحبيبة مصر.
في الهزيمة الأولى عام 1948 رفضناها واستنكرناها وقامت ثورة 23 يوليو ترد لنا الاعتبار، وترد لنا الإحساس أن العالم لم ينته بهزيمة 48، وأن العمل الجاد لا بد أن يبدأ، في هزيمة 67 اكتشفنا أننا هزمنا لأننا قمنا بثورة على الورق، فإجراءاتنا فيها كانت قرارات، وقواتنا المسلحة تركناها لمن لم يرعها ومن لم يكون بها جيشا حقيقيا للخلاص.
وكان أن شددنا الأحزمة على البطون، وبنينا قواعد الصواريخ تحت وابل القنابل الإسرائيلية، حتى إن العمال والعاملات الذين كانوا يعانون في بناء تلك القواعد، وكان معظمهم من أبناء الشرقية، كانوا يعرفون أن ثلثهم على الأقل لن يعود لبيته - إن كان له بيت - في آخر النهار، ومع هذا فقد كانوا يذهبون إلى عملهم وهم يغنون أغاني الأفراح ويغردون وكأنهم ذاهبون إلى زفة انتصار.
وهكذا عبرنا القنال في 73 وانتصرنا. •••
في هزيمتنا الثالثة تلك، نحن لسنا أمام هزيمة عسكرية ملموسة، ولا بضعة قواد من الجيش ممكن عزلهم ومحاكمتهم وإحلال غيرهم - أكثر كفاءة - محلهم ... نحن أمام هزيمة لا نرى لها آثارا ملموسة واضحة، وكأنما قصد أن يكون الأمر كذلك، إنها هزيمة نحس بأعراضها، ولكننا لا نعترف بأننا مرضى وأننا مهزومون وأننا في حاجة إلى هبة كبرى، من كل النواحي، توقظ جسدنا الذي خدرته قرصة ذباب، تسي تسي، التي تسبب مرض النوم المستمر العليل.
Halaman tidak diketahui