نعم، هي ظاهرة استرعت انتباهي حقا، وذكرتها في مرور عابر على كلمتي السابقة، ولكن، لأن الموضوع هام وخطير ولا يلتفت إليه الكثيرون فقد رأيت أن أعود إليها، متوسعا فيها، واصلا إلى إسبانيا وربما أيضا طرق علاجها.
ذلك الموضوع هو أننا قبل قيام التنظيمات التي تحمل شعار الإسلام وتدعو له، وتكفر كل من لا يؤمن بطرقها ووسائلها، وسريان العدوى إلى خطباء المساجد ومؤذنيها بحيث تستحيل مدننا وقرانا إلى مظاهرات، ميكروفونية، رهيبة ساعة الأذان للصلاة بما في ذلك أذان الفجر وتسبيحاته وإذاعة الصلوات نفسها من داخل المساجد ضاربين عرض الحائط بالآية الكريمة التي تقول:
ولا تجهر بصلاتك ولا تخافت بها ؛ فالصلاة نوع من العبادة المتأملة التي تستدعي بالضرورة أن يتأمل الإنسان كلام خالقه، وحكمة ركوعه وسجوده، بل ويتأمل معاني الفاتحة التي يقرؤها والتحيات التي ينهي بها ركعاته.
أقول قبل أن تعرف مصر هذه الظاهرة التي أحالت الدين الإسلامي خاتم الرسالات إلى ضوضاء وأصوات تغلظ من حناجرها وتوجه التهم - والسباب أحيانا - من فوق منابر مساجدنا، كنا نؤدي طقوس ديننا في جلال وخشوع ورهبة؛ لأننا كنا نحس أننا - في الصلاة - لا نواجه بعضنا البعض، ولا نتخذ الصلاة وسيلة لإظهار براعة علو أصواتنا، ولكننا كنا فيها نواجه المولى سبحانه ونناجيه ونسترحمه ونستغفره ونتوب إليه هو وحده.
الظاهرة التي استرعت انتباهي هي أنه مع هذا العلو في الأصوات إلى درجة الغلظة والتعذيب، خفت صوت الضمير الإسلامي، وانتشرت الأهوال في مجتمعنا إلى درجة أن أولياء أمور طلبة الحسينية استعملوا تلك الميكروفونات نفسها في تغشيش أولادهم وتعليمهم أن الإنسان ينجح في حياته لا بالجهد والعرق والكدح وإنما بالغش والتزوير والتدليس، وكأن أولياء الأمور هؤلاء ليسوا هم الذين يستيقظون كل يوم لأداء صلاة الفجر، وكأن الدين شيء والأخلاق الحميدة شيء آخر، وكأن ليست الرسالة العظمى للدين هي أن يرفع من تصرفات الإنسان ومواقفه وأحكامه إلى أعلى مستوى ليصبح الإنسان حقا وصدقا ظل الله على أرض الله سبحانه الكامل في صفاته.
لماذا حدث هذا الانفصام؟
ولماذا أدى هذا الانفصام إلى أن يبرر بعض أعضاء جماعات التكفير لأنفسهم أن يطلقوا النار على رجل دين مريض جاوز السبعين وهو موثوق بالحبال، ويضعوا فوهة المسدس في عينه اليسرى، ويطلقوا عليه النار ويقتلوه، مع أنهم يفعلون هذا رافعين راية العودة للمجد الإسلامي التليد، وكأن هذه الفعلة نفسها وكأن إطلاق النار وحرق الكنائس - تلك التي نهى عنها الإسلام تماما وجرمها هي نفسها الوسيلة للوصول للحكم الإسلامي الحق، وهل ممكن أن تؤدي الوسائل المجرمة السفاحة إلى إقرار مبادئ العدل والتسامح والإيمان ورعاية سابع جار وحتى عدم إيذاء القطط والحيوانات أو تركها حتى تموت من الجوع؟
هل الإسلام، ذلك الذي أوصى المؤمنين به حتى برعاية الحيوان، ممكن أن تكون طريقة الوصول إليه هي بقتل المسلمين دون محاكمة ودون اتهام محدد ودون إجراءات قضائية إسلامية محددة تضمن للمتهم حقه في الدفاع عن نفسه، وبل أحيانا يوقف أمير المؤمنين عمر بن الخطاب إقامة الحد على السارق إذا وجد أن السرقة حدثت بسبب الجوع أو المجاعة؟ •••
وأيضا ليس هذا هو موضوعنا، فهو موضوع الذين خلقوه أو اختلقوه، موضوع هدم هذا المجتمع وإقامة مجتمع يخضع تماما لديكتاتورية أفكارهم، ويتصرفون فيه وكأنهم رسل العناية الإلهية لإقامة الحكومة الإسلامية الدينية على الأرض، ولو بإفراغ الرصاص في عيون المشايخ أو إطلاق النار على العزل وحرق المحلات والكنائس وإذكاء عداوة طائفة مصطنعة لا بد في النهاية أن تؤدي إلى حرب دينية طائفية، وفي المقابل لا أستطيع أن أناقش الحكومة في رسائلها فهي مشغولة بواجب المحافظة على الدولة وعلى أرواح المواطنين، بل أن أخوض في هذه «الهوجة» الإعلامية القائمة حول الجماعات الإسلامية وتطبيق الشريعة والحل هو الإسلام، وكل تلك الضجة التي يفرحون لها تماما ويريدون لها أن تستمر حتى لا يصبح لا عمل للناس إلا الحديث عنهم صباح مساء سواء معهم أو ضدهم، والحديث معناه الرواج الشعبي والرواج الشعبي هو ركيزة من ركائز الوصول إلى هدفهم وهو الحكم.
إني إنما أناقش هنا موقف الحكومة وليست حكومة اليوم فقط كما قد يعتقد البعض، ولكن موقف الحكومات المصرية المتتالية منذ قيام الثورة وإلى الآن.
Halaman tidak diketahui