Madina Fadila
المدينة الفاضلة عند فلاسفة القرن الثامن عشر
Genre-genre
الذي تولى نشر المذكرات: «إن المواطنة رولان التمست في تقدير الخلف ما يعوضها عن ظلم معاصريها لها، وفي رفعة الذكر ما يعوضها عن موت عجلوا لها به.» فالخلف بالنسبة لها كما هو بالنسبة لديدرو بمثابة الدار الآخرة للمتدينين، وكان لها من رجاء الخلود مثل ما كان للشهداء في سبيل النصرانية، وكان هذا الرجاء سندها حينما صعدت الدرج إلى المقصلة بقدم ثابتة، ورفعت عينين غير هيابتين نحو السكين المعد الذي لا ينبو ولا يرحم.
43
4
لاحظ دي توكفيل منذ نحو قرن من الزمان أن الثورة الفرنسية كانت ثورة سياسية، ولكنها اقتبست من مناهج الثورات الدينية خطط العمل والأساليب، واكتسبت في بعض نواحيها خصائص الحركات الدينية، فتدفقت كما فعل الإسلام أو الثورة البروتستنتية عبر الحدود بين الممالك والشعوب، وانتشرت بالتبشير والدعوة، واتخذت لتحقيق غاياتها في هذه الحياة الدنيا نفس ما اتخذته الثورات الدينية من مناهج وأساليب ووسائل لتحقيق غايتها في الحياة الأخرى، وراعت في اعتبار المواطن صفته الإنسانية لا انتسابه إلى أمة معينة، وهي في هذا كالأديان لا تعرف إلا مطلق إنسان، بغض النظر عن ظروف الزمان والمكان، ولم تسع الثورة الفرنسية لتقرير حقوق خاصة بالمواطنين الفرنسيين، بل سعت لتقرير حقوق الإنسان وواجباته أينما كان، مما دل الناس على أن الثورة تعمل على أن تجعل من النوع الإنساني خلقا جديدا أكثر مما تعمل على إصلاح أحوال الأمة الفرنسية، وقد ترتب على اكتسابها هذا النظر أنها بعثت في أنصارها وفي خصومها على السواء من الانفعال والحدة والحمية ما لم يعهد له مثيل من قبل في أشد الثورات السياسية عنفا، كما أنها بعثت في أنصارها رغبة قوية في اكتساب الشعوب الأخرى إلى مبادئها، وأدى هذا إلى فكرة الدعوة وتنظيم الدعوة، وبهذا كله اكتسبت الثورة الفرنسية خصائص الثورات الدينية، مما أدهش معاصريها، بل وأكثر من هذا تحولت فعلا إلى ثورة دينية من نوع جديد، قد يقال عنها إنها ثورة دينية من نوع ناقص، فهي لا إله لها - ولا عبادات ولا حياة أخرى، ولكنها مع هذا وعلى نحو ما فعل الإسلام ملأت العالم جندا ورسلا وشهداء.
44
وقد مرت ملاحظات دي توكفيل هذه بمعاصريه دون أن ينتبهوا إلى عمق مراميها، والواقع أن انهماكهم في تسوية مسائل عصرهم السياسية، واختلافهم على صحة العقائد الدينية التقليدية شغلاهم عن فهم روح الثورة على الوجه الحق، وبقيت الحال كذلك حتى أيامنا؛ أي حينما ابتعد المؤرخون عن المباحث الدينية التقليدية، ابتعادا صاروا به أكثر استعدادا من ذي قبل لكي يدركوا اكتساب الثورة الفرنسية - وبخاصة في أطوارها الأخيرة - خصائص الحرب الدينية، وهذا كله مسلم به اليوم، وقد تعلمنا من مباحث ماتييه - وأولار
45
وتلاميذهم أن الثورة حاولت فعلا أن تستبدل دين الإنسانية الذي أنشأه القرن الثامن عشر بالدين التقليدي، وأن الدين الجديد على الضد مما زعم دي توكفيل لم يكن بلا إله، ولا عبادات، ولا حياة أخرى، أجل كان للدين الجديد عقيدته: هي مبادئ الثورة المقدسة - الحرية والمساواة المقدستان، وكانت له عبادات وطقوس هي طقوس العبادة الكاثوليكية معدلة في المواسم المدنية، وكان قديسوه هم أبطال الحرية وشهداؤها، وقد استمد الدين الجديد قوام حياته من حمية العاطفة، ومن الإيمان التصوفي بالإنسانية وبعثها خلقا جديدا، وبينما كان لويس السادس عشر لا يزال على عرشه، كان من رعاياه من وصف العقيدة الجديدة (متأثرا بروسو) كما يأتي:
إن دينا يقرر ألا يعبد المواطنون جميعا إلا الوطن والقانون، لهو في نظر العقلاء دين قيم، وفي هذا الدين يكون الملك الحاكم الأعلى كاهنه الأعظم، وفيه ينال من يموت من أجل الوطن المجد الأبدي والسعادة المقيمة، وفيه يكون فاسقا من انتهك حرمة القانون، ويأمر الملك الكاهن (الحاكم الأكبر) باسم الشعب الذي أجرم في حقه وباسم الإله الذي وضعنا جميعا تحت سلطان قانون واحد، فيلعنه اللاعنون جزاء وفاقا.
46
Halaman tidak diketahui