Madina Fadila
المدينة الفاضلة عند فلاسفة القرن الثامن عشر
Genre-genre
1
الماضي والمستقبل حيزان من الزمان نفصل بينهما عادة بثالث هو الحاضر، ولكن الحاضر على وجه التدقيق لا وجود له، أو على أحسن الفروض لا يجاوز إلا برهة ضئيلة جدا من الزمان، برهة تزول قبل أن نسجل أنها حاضرة، ومهما يكن فيجب أن يكون لدينا زمان حاضر، ويمكننا أن نحصل عليه بأن نسلب الماضي شيئا منه، ونعتبر ما سلبناه حاضرا - أو بعبارة أخرى - بأن ندعي للحاضر الأحداث الحديثة الوقوع، وندرجها في سلك محسوساتنا الحاضرة، وعلى سبيل المثال أرفع ذراعي، «الرفع» سلسلة من حركات، الأولى منها وقعت في زمن مضى، في زمن سبق الأخيرة، ولكنني أعتبر «الرفع» عملية كاملة واحدة حدثت في برهة واحدة، وإدخال الأحداث المتتالية في لحظة حاضرة واحدة على هذا النحو يطلق عليه الفلاسفة اسم «الحاضر الكاذب»، وإني لا أدري أي حدود حددوها له، ولكني سأترخص وأقول: إن لنا أن نمد في الحاضر الكاذب كيف نشاء، وهذا في الواقع هو الاستعمال الجاري، فإننا نتحدث مثلا عن الساعة الحاضرة والسنة الحاضرة والجيل الحاضر؛ وهكذا، وإني لا أدري أللكائنات الحية جميعا حاضر كاذب أم لا، ولكن مما لا شك فيه أن أهم ما يفرق الإنسان عن سائر الحيوانات هو أن حاضره الكاذب قابل للامتداد والتنويع والوفرة كما يشاء، بيد أن قدرة الإنسان على حاضره هذا وتنميته تتوقف على مقدار علمه عن الماضي، وعن البلاد البعيدة، أو بعبارة أخرى مقدار ما تستطيع حافظته أن تستوعب عن الماضي، وعما هو بعيد عنه، وهكذا يستطيع المتعلم أن يستحضر حينما يشاء صورة تمثل ماضي البشرية البعيد على وجه ما من التقريب والدقة، وبذا يجعل من هذا الماضي كله حاضرا بالنسبة له.
ولا يفعل الناس هذا في المعتاد، فالشخص السليم العقل لا يحاول عادة أن يأتي بماضي البشرية كله حاضرا بين يديه، ولكن الناس لا يستغنون تماما عن الإتيان به أو ببعضه حينا ما، فمتى أراد أحدهم مثلا أن يحقق غاية من الغايات، فإنه يستعيد ذكرى طائفة من أحداث ماضية معينة، سواء أكانت حدثت حقيقة أم توهما؛ أي يستحضر ذلك القدر من الماضي الذي يعده لازما لتوجيهه لقضاء ما هو بسبيل قضائه، والتوجيه يحمل معنى الاستعداد لمواجهة ما هو مقبل، ويقتضي الاستعداد بناء على هذا شيئين: يقتضي استحضار أحداث مضت، كما يقتضي توقع حدوث أخرى مستقبلا، ولاحظ أنني قلت «توقع كذا» ولم أقل «التنبؤ بكذا»، وحاصل الكلام أن الحاضر الكاذب يحمل دائما قدرا صغيرا أو كبيرا من الماضي كما يحمل حتما في الوقت نفسه قدرا من المستقبل، بل كلما زاد مقدار الماضي فيه، تشكل فيه مستقبل متوقع حدوثه، فبين الاثنين إذن علاقة بحيث إنه إن كانت ذكرياتنا عن الماضي قصيرة المدى هزيلة ضئيلة، فإن نوع المستقبل الذي نتوقع يكون أيضا قريبا هزيلا، وعلى العكس إن كانت الذكريات زاكية وافرة متنوعة، فإن المتوقعات يغلب أن تكون كذلك تقريبا، وأهم ما في العلاقة بين هذين الشيئين الماضي والمستقبل ليس مقدار الامتداد والنماء فحسب، بل توقف صفة نسق الواحد منهما على صفة نسق الآخر، وإذا ما تساءلنا أيهما يسبق الآخر، أيهما العلة وأيهما النتيجة، أو هل نحن نكون نسقا معينا استجابة لرغائبنا ورجائنا، أم يتكون النسق بموجب من الخبرة والعلم، ومنه تصدر الرغائب والرجاء؟ ولن أحاول أن أجيب عن هذا، وأكبر ظني أن ذكرى الماضي وتوقع المستقبل يعملان معا متآزرين، لا يختلفان في أيهما يتقدم الآخر أو يتزعمه، ومهما يكن فالثابت أنهما يعملان معا، وأن أي حاضر كاذب يعيه الفرد في وقت معين هو نسق يتكون في لحظة واحدة من ماض يستذكر ومحسوس يدرك ومستقبل يتوقع، فهو قطعة واحدة نسيجها من خيوط الماضي والحاضر والمستقبل.
وإذا كان هذا صحيحا بالنسبة لعقل الفرد في معتاد أحواله، أليس هو صحيحا أيضا بالنسبة إلى العقل معمما لجيل من الأجيال في عصر من عصور الزمان أو في جو فكري معين؛ أي بالنسبة إلى عقل عام نصنعه صناعة، أو نتوهم له وجودا للزومه لأغراض الجدل الأكاديمي؟ ومهما يكن فلنفرض أن ما هو صحيح بالنسبة لعقل الفرد هو أيضا صحيح بالنسبة لعقل الجيل، وقد نجد في هذا الافتراض نفعا، وعلى هذا فإننا ننسب للقرن الثامن عشر «عقلا» وننسب لهذا العقل شعورا بحاضر كاذب يتكون من ماض مستذكر ومحسوسات بأحداث حاضرة ومتوقعات مستقبلة، وأما فيما يتعلق بالماضي المستذكر، فقد حاولت في المحاضرة السابقة أن أبين أن عقل القرن الثامن عشر، كما تدل عليه كتابات الفلاسفة تصور الماضي زمان جهل وشقاء أخذت البشرية تخرج منه إلى حاضر أفضل فيما هو ثابت عيانا، هذا بالنسبة للماضي والحاضر، وأما بالنسبة للمستقبل المتوقع، فسأحاول في محاضرتي هذه أن أبين أن الصورة التي كانت لدى القرن الثامن عشر عن ماضيه وحاضره حدت به إلى أن ينظر للمستقبل نظرة المتطلع إلى «أرض الميعاد»، إلى «أوتوبوس» أو «لا أين»؛ أي الدار التي يبنيها الخيال. هذا ما سأحاول أن أبينه، وقبل أن أفعل ذلك أحب أن أعيد ما سبق لي أن قلته - ولعلي قد قلت هذا أكثر من مرة - إن فلاسفتنا هؤلاء لم يكونوا فلاسفة بالصناعة؛ أي لم يكونوا رجالا مقيمين في بروج عاجية ظليلة، لا يشغلهم شاغل عن التأمل، بل كانوا مجاهدين كأولئك الذين نفروا تحت راية الصليب لاسترجاع الآثار المقدسة، فخرجوا هم كذلك تحت راية دين الإنسانية؛ لينتزعوا من الفلسفة المسيحية ومن المنكرات التي آزرتها سيطرتها على العقول، وكانت الفكرة التي استحثتهم - أن البشرية أفسدتها وغدرت بها العقائد الباطلة، فهبوا لسحق تلك العقائد الباطلة، ولكي يسحقوها تعين عليهم أن يقابلوها بعقائد تضادها، ولكن على أن تكون مشتقة من نفس أصل العقائد الباطلة، وكان هذا شرطا أساسيا، فإن القتال بين عدوين لا يقع إلا إن كان المتقاتلان في مستوى واحد، والقتال بين المعاني كالقتال بين الرجال، فالمعاني إن لم تكن في مستوى واحد استحال عليها أن تتقابل في قتال، فلا بد من أن تتلاقى وتتصادم وتتماس لكي تتقاتل، وإلا لا ينفع انقضاض وكر وفر، ويستمر كل منها يسبح في فلكه؛ وعلى هذا إن أراد الفلاسفة أن يدحضوا الفلسفة المسيحية، فقد وجب عليهم أن يقابلوها في مستوى أفكار معينة مشتركة بينهما، فإذا ما أنكر الفلاسفة مثلا أن الحياة البشرية تدبير محكم ذو معنى وغاية، استحال عليهم أن يتلاقوا وخصمهم، وفوق هذا كيف السبيل إلى إنكار هذه الفكرة، وهي تكاد تكون غريزية تعيها الصدور جميعا، بما في ذلك صدور الفلاسفة أنفسهم، فيتعين على الفلاسفة أن يعدلوا إلى خطة أخرى لمهاجمة خصومهم، كأن يقولوا: إن الصورة التي صورتها المسيحية للتدبير العالمي خاطئة ضالة. وأن يجيئوا لهم بأخرى أفضل منها؛ أي يجيئوا بتأويل آخر لماضي البشرية وحاضرها ومستقبلها.
ولم يدر الفلاسفة أن الموقف الذي اتخذوه من اللاهوتيين النصارى، هو موقف اللاهوتيين النصارى من الوثنية؛ وذلك أن آباء الكنيسة نالوا ما نالوا من انتصار على الوثنية بفضل انتحالهم النظرية اليونانية المشهورة، نظرية الكون والفساد المتكررين في أكوار إلى ما لا نهاية،
1
ثم تعديلها لتفي بحاجات العالم اليوناني الروماني وتجاربه عندما أخذوا على عاتقهم أن يقوموا اعوجاج هذا العالم، وكان يماثل في حاجته للتقويم القرن الثامن عشر، اقتبس الآباء فكرة اليونان والرومان عن وجود عصر ذهبي في الزمان الغابر من إنشاء أبطال أو شارعين أفذاذ ملهمين من قبيل ليكرجوس وصولون،
2
ثم أولوها وصاغوها طبقا لعقائد الكتاب المقدس وعباراته، فجعلوا العصر الذهبي للإنسانية عند بدء الخليقة، عند بدء الإنسان والعالم، وأضفوا عليه بذلك بهاء أي بهاء، وعينوا له مكانا في جنة عدن، فصار بذلك أبين حقيقة وأثبت وجودا، ونسبوه إلى الله الواحد الحق العالم المريد للخير، بدلا من البطل أو الإنسان الشارع الملهم، فأكسبوه بذلك سلطانا وكمالا، ثم انتهى ذلك العصر الذهبي المسيحي بالهبوط من الجنة وشقاء البشرية، وهذا يقابل ما ذهب إليه الكتاب الأقدمون حينما اعتبروا حاضر البشرية فسادا طبيعيا منشؤه القضاء والقدر، والضعف البشري لا مخرج منه إلا بصدفة سعيدة أخرى، فيظهر الشارع الملهم أو الملك الفيلسوف الذي ينهض بالبشرية من كبوتها، ثم يكون الفساد بعد هذا؛ وهكذا دواليك، فالزمان عندهم عدو الإنسان، والتاريخ عندهم يتكرر فسادا وكونا أكوارا إلى ما لا نهاية، ويقول ماركوس أورليوس: «النفس العاقلة تجوب آفاق الكون كله والفراغ الذي يحيط به، وتعي شكل بنيته وتوغل في أعماق الزمان اللامتناهي ، وتفهم حقيقة كون الأشياء المتكرر وتحله محل الاعتبار، وتستبين حينئذ أن أبناءها لن يروا شيئا جديدا، كما أن آباءنا لم يروا غير ما نرى نحن؛ وعلى هذا وبموجب هذه المماثلة لنا أن نتصور أن الرجل في سن الأربعين إن كانت لديه حبة من فطنة، يكون قد رأى كل ما كان وكل ما سيكون.»
3
Halaman tidak diketahui