Madina Fadila
المدينة الفاضلة عند فلاسفة القرن الثامن عشر
Genre-genre
27
وما كان هذا الكتاب إلا محاولة من محاولات عديدة للتبرير بالعقل، وإن كانت من أكثرها بسطا وأوفرها جهدا، هذا ما كان من أمر اللاهوتيين، أما غيرهم من رجال الأدب أو من رجال الطبقة الراقية، فإن عقولهم المتصنعة مجت تلك الكلمات الأساسية، كما لو كانت لا تتفق مع حسن الذوق، اجتنبها المستنيرون العقلاء واستخدموا عوضا عنها مترادفات أو كتابات أقل تحديدا وإثارة للشبهة، فجعلوا من صورة الإنسان ناجيا ناعما في الدار الإلهية، تخيلا مبهما «للحياة المستقبلة» أو «لخلود النفس»، أو «للسعادة الدنيوية» أو «للكمال الإنساني» في اجتماع دنيوي بحت، وأما النعمة الإلهية فيرادفها عندهم «الفضيلة» بالمعنى الذي عرفه الرومان إلى حد ما - فهي في تعريف مارمونتيل «جماع الاستقامة والطيبة الخلقية - هذا هو أساس الفضيلة»،
28
وعلى هذا فإن ما اعتبر إنسان «رجل فضيلة» كان هذا كفيلا بتزكيته اجتماعيا دون أن يكلف نفسه عناء استطلاع خفايا قلبه، ليعرف حقيقة حاله، بل يجوز لنا أن نقول: إن «رجل الفضيلة» قد يبلغ درجة القديسين إن اشتهرت حاله الشهرة الكافية، وفي ظني أن هيوم وفرانكلين حينما كانا في فرنسا كان لديهما من الدلائل على أنهما قد بلغا من هذه الدرجة مثل ما بلغ أي قديس من قديسي الكنيسة تماما.
وهكذا أقام الفلاسفة مدينتهم الفاضلة على دعائم ترتكز على هذا الثرى، وجعلوا «تزكية الإنسان» من شأن الإنسان نفسه، وتصوروا «الربوبية» على ما يشتهون، ثم استحوذ عليهم ما أنساهم الله، ومنهم من قسا قلبه فجحده، إلا أن أكثرهم لم يهو إلى هذا الحد، وقد حال دون انحدارهم أنهم نشئوا وعاشوا في مجتمع مستقر ناسه بعضهم فوق بعض درجات، ولآداب المخالطة والمعاشرة فيه أوضاع، ولفنه قواعد وضوابط، فلا بدع أن نفروا من الجحود المطلق، فالجحود المطلق معناه كون بلا نظام لا يطيقون أن يتصوروه، فالأسلم إذن - حتى في نظر المستنيرين - أن يبقى للكون رب أو شيء ما يقوم مقامه، يكمل للكون صورة يطمئن لها الإدراك الفطري السليم، على أن كونا على هذه الصورة لا تلزم ربه الصفات الفاخرة البشرية التي نسبها أهل العصور السابقة للرب الأب، وما حاجة رجال العصر إليها وخالق الكون عندهم ما هو إلا مبدؤه الأول! وما دام هذا المبدأ الأول قد أدى ما ينبغي لمبدأ أول أن يقوم به فبدأ الأشياء، فلا ينبغي بعد ذلك أن يكون له بها شأن، بل حسبه أن يأوي حيث الوجود المطلق، وإذن فلا يدبر للناس أمرا ولا يرهقهم، ولا حاجة به إلى قرابينهم وزلفاهم، وحسب ذوي الألباب منه أنه العلم أو الخير، يتأملونه مقدسين، ولكن غير خاشعين أو قانتين، وكان لا بد لأولي الألباب أن يطلقوا عليه اسما يغنيهم عن اسم الرب الأب، ولكنهم لم يتفقوا على شيء، فأحيانا هو الكائن الأعظم، وأحيانا موجد الكون، وأحيانا المقتدر الكبير، وأحيانا المحرك الأول، وأحيانا العلة الأولى، وهي جميعا تؤدي المعنى، وإن كان عدم اتفاقهم على اسم منها يحيرنا كثيرا.
وبعد أن فعل الفلاسفة فعلتهم، وجعلوا من الرب الأب تجريدا رقيقا سموه العلة الأولى، كانوا على استعداد للاستغناء عما نزل الله في كتبه، وعما أبلغ الناس عن طريق الكنيسة، والواقع أن هذا الاستغناء كان مدار فعلة الفسوق التي فعلوا، فشرط الاستنارة عندهم هو إنكار ما أنزل إلى السلف، والاستنارة هي أن يرى الإنسان النور في تمامه، والنور في تمامه يكتشف حقيقتين بسيطتين بديهيتين، إحداهما أن ما زعم عن إظهار الله خلقه على مشيئته في كتبه المنزلة، وعن طريق كنيسته زور وبهتان، أو - إن أحسن الظن - وهم منشؤه الجهل، ألقاه القسيسون في روع الناس، أو - على الأقل - زينوه لهم لكي يزيدوهم هواجس، فيبقى لهم السلطان عليهم، وهذه الحقيقة تجمع المسائل التي أنكروا، وقد قلنا: إن فهمنا لها ليس بالشيء العسير، وأما الحقيقة الأخرى فهي أن الله أظهر الخلق على مشيئته عن طريق أعماله، وهو طريق أكثر بساطة واستقامة وأقل غموضا وإشكالا من طريق الوحي، وهذه الحقيقة تجمع المسائل التي أثبتوا، وقد قلنا: إن فهمنا لها أصعب من فهمنا لصاحبتها، والمستنير هو الرجل الذي يدرك هاتين الحقيقتين، وأن سنة الله مسطرة لا في الكتب المقدسة، وإنما في كتاب الطبيعة الأكبر، وهو كتاب منشور للعالمين، هذا هو التنزيل الجديد، وهكذا ظهر لنا باب المعرفة بعد أن كان خفيا وآن لنا أن نلجه.
وهكذا عرفنا أن جان جاك روسو وأصحابه الفلاسفة، حينما خرجوا يبتغون معرفة رسالة الله إليهم، كان مقصدهم الحصول على هذا الكتاب، كتاب الطبيعة المنشور.
الطبيعة والقانون الطبيعي، ما أشد ما سحرت هذه الكلمات ذلك العصر الفلسفي، وأيما أثر لذلك العصر تطلع عليه، فإنك لواجد لأول نظرة الطبيعة والقانون الطبيعي مرقومتين في كل سطر من سطوره، لقد قرأت عليكم في موضع آخر مختارات من آثار هيوم وفولتير وروسو وفولني، وفي كل ما قرأت عليكم تشغل كلمة «الطبيعة» مكان الصدارة لا ينازعها فيها منازع، كما لو كانت أخلق الضيوف جميعا بالحفاوة، وحينما ابتغيت عنوانا يليق بموضوع محاضرتي هذه، كان حسبي أن أرجع لإعلان استقلال الولايات المتحدة، فأقرأ في ديباجته هذه العبارة:
لكي تشغل (أي الولايات المتحدة الأمريكية) بين دول العالم ذلك المكان المستقل المكافئ غيره من الأمكنة، والذي تؤهلها لشغله قوانين الطبيعة، وقوانين رب الطبيعة.
وإذا ما انتقلت إلى النص المقابل له، وهو إعلان الجمعية الوطنية الفرنسية حقوق الإنسان الطبيعة، فإنك لتقرأ فيه:
Halaman tidak diketahui