Madina Fadila
المدينة الفاضلة عند فلاسفة القرن الثامن عشر
Genre-genre
ولوك وهيوم وبولنجبروك وفرجوسون وآدم سميث وبرايس وبريستلي،
4
وفي العالم الجديد جيفرسون ذو العقل الحساس المرهف، يلتقط وينقل أي هزة تحدث في جو الأفكار، وفي العالم الجديد أيضا فرانكلين
5
الطباع صديق بني الإنسان - هؤلاء جميعا ينتسبون لحركة الاستنارة، على الرغم مما بينهم من تغاير، يرجع إلى خواصهم الذاتية أو القومية، فكانت دولة الفلاسفة إذن دولة عامة، وما كانت فرنسا منها إلا البلد الأم، وما كانت باريس إلا حاضرتها الكبرى، وأنى ذهبت: إنجلترا، هولندا، إيطاليا، إسبانيا، أميركا وغيرها، فأنت تلقاهم - أي الفلاسفة - يتكلمون نفس اللغة، ويعيشون في نفس الجو الفكري، ينتمون للبلاد جميعا لا لبلد بعينه، فولاؤهم للإنسانية وحدها، ولا مطمح لهم إلا أن يعدوا ضمن «أولئك الرجال القليلين الذين استحقوا شكر الإنسانية لما بذلوه في سبيلها من فطنة وعمل صالح.»
6
هم المواطنون العالميون المتحررون، يقع نظرهم على عالم يخيل للرائي أنه جد حديث، وما ذلك إلا لأن النور قد انتشر منذ زمن قليل في أرجائه، وهو عالم يجدون فيه كل ما هو جدير بالتفاتهم ظاهرا مرئيا، وكل ما هو ظاهر ألفوه صافيا واضحا لأقصى حدود الوضوح، على الرغم من كل ما قيل، ولا شبهة في أن عقل الإنسان يستطيع فهمه - أو قل عقل الفلاسفة.
وهناك أمر آخر عن الفلاسفة له شيء من الأهمية يقتضينا إنصافهم أن نذكره ولو عرضا؛ وخصوصا لأن قليلا فقط من الكتاب كلف نفسه ذكره، هذا الأمر هو - أن الفلاسفة لم يكونوا فلاسفة، بمعنى أنهم لم يتخذوا من الفلسفة صناعة تعليم، مثل أولئك الذين يرون من واجبهم أن يطلعوا على الناس في أوقات متلاحقة برسائل في نظرية المعرفة وما إليها من موضوعات، رسائل مرتبة ولو أنها تولد ميتة، حقيقة أن من فلاسفة القرن الثامن عشر من كان فيلسوفا بالمعنى الذي عرفناه، فكتابات ليبنتز ولوك وهيوم، ويصح أن نلحق بها كتابات آدم سميث وهلفسيوس، مما يندرج تحت عنوان الفلسفة، ومما يعرض له في كتاب تاريخ الفلسفة، إلا أن أكثر فلاسفة القرن الثامن عشر كانوا أدباء يكتبون الكتب ليقرأها الناس، ولينشروا فيهم آراء جديدة أو آراء قديمة في ثوب جديد، وحسبي أن أذكر أن فولتير كتب قصصا للمسرح وحكايات، وألف في التاريخ، ووضع كتابا في أصول فيزيقا نيوتون للسيدات والسادة الذين لم يرزقوا حظا من معرفة الرياضيات، وأن فرانكلين كان من رجال العلم والاختراع، وكان سياسيا وسفيرا واقتصاديا وأخلاقيا، وأول الأمريكيين اشتغالا بفن المقالة الصحفية القصيرة، وأكثرهم توفيقا في ذلك الفن، وأن ديدرو كان بالإضافة إلى عمله في الإشراف على تحرير دائرة المعارف وكفالتها، صحفيا يكتب في كل موضوع خطر على ذهنه المتوقد، فمن معارض الفنون إلى ما تضمنته نظرية الكون الآلية من اللوازم الاجتماعية، إلى ما يترتب على كبت العواطف في الراهبات من سوء الأثر، وأن روسو وهو في مجال إثبات أن الفن كان وبالا على بني الإنسان استعمل أرفع درجات الفن في كتبه في الدعوة السياسية، وفي قصصه التهذيبية، وأن مابلي وضع مؤلفا تاريخيا مطولا ليثبت أن فرنسا كان لها فيما مضى دستور سياسي خليق جدا بالإعجاب، وإن لم يتيسر لها - لسبب غير ظاهر - أن تفيد منه.
7
ومع هذا ومع كون فلاسفة القرن الثامن عشر غير فلاسفة، فقد كانت لهم كما لنظرائهم اليوم رسالة فلسفية نهضوا لإبلاغها وحملوا إلى بني آدم أنباء البشرى بما هو آت، وإن تساءلنا: أنزهوا أنفسهم عن الغرض؟ أأخلصوا للفكرة وحدها؟ قلنا قطعا: لا، فلا تفتشن إذن عن تلك الصفات السامية في كتاباتهم، وخصوصا عندما يدعونها، لقد تجدها أحيانا هنا وهناك مثل عرض نيوتون وزملائه لنظرياتهم العلمية عرضا علميا خالصا، وربما صدق هذا أيضا على بعض آثار فرانكلين وهيوم، أما أن الفلاسفة عموما كانوا قوما اعتزلوا الناس واكتفوا بمعاينتهم والتلهي بهم، فإن هذا لم يكن من خصائصهم، حقيقة تفيض آثارهم دقة فهم وبراعة حديث وسخرية، وكان فولتير كما نعرف جميعا مبرزا في هذا، بيد أن السخرية لم تعرض للأشياء في صميمها، ولم تمس إلا المثالب الظاهرة التي يسهل على أي إنسان أن يطلع الناس على سخفها، وعلى ذلك لم تكن في أيديهم الدواء الشافي، بل كانت فقط ذلك النوع من الدواء الذي يهيج الجسم لعله يقضي على الداء، وإنا لنرى أيضا أن فلاسفة القرن الثامن عشر لم يمسهم التشاؤم إلا مسا خفيفا، ولم يستقر في نفوسهم كما فعل في «إباحيي»
Halaman tidak diketahui