Madina Fadila
المدينة الفاضلة عند فلاسفة القرن الثامن عشر
Genre-genre
5
والتوفيق بين الوقائع والأحداث المتنوعة المتنافرة، وكون العالم نسقا عقليا جد عسير، فما بالك إذا كانت تجارب الإنسان محدودة وأفق علمه غير متسع، كما هو الحال في العصور الوسطى، إن التوفيق حينئذ يكون أمرا مستحيلا، اللهم إلا إذا استطاع المنطق أن يسلم بالنزعات العاطفية التي لا يعرفها العقل، ولم يخيب المنطق رجاء أهل عصر دانتي فيه، ولكن لكي يحققوا ذلك؛ كان واجبهم الأول أن يضعوا قواعد دقيقة للجدل، بيد أن هذا كان أقل صعوباتهم؛ إذ ما لبثوا أن وجدوا أنفسهم رغم استعانتهم بمنطق أرسطو عاجزين أحيانا عن أن ينظموا في سلك المقولات الأنيقة التي يقررها الدين ذلك النوع من الحقائق الذي وصفه وليم جيمس بكونه
6
غير ذلول لا يقبل أي ترويض، فكانوا مضطرين إذا اشتدت بهم الحال إلى البحث عما يمكن أن يكون وراء ظاهر آيات الكتاب المقدس من معان خفية، واستعانوا على استخراجها بالتأويل الرمزي، وعبروا عن هذا في قاعدة مشهورة من قواعد التعليم وضعها «المدرسيون» هي: ظاهر النص يضبط ما نعلم، والتأويل الرمزي يكشف عما نرجو أن نعلم، والأمثال تدعم العقيدة، والمواعظ تشكل السلوك.
وهكذا أمكن للقرن الثالث عشر - بفضل ما استخدم من جدل دقيق للغاية، يشد أزره أحيانا تأويل رمزي - أن يظهر الإنسان على عجائب صنع الله، وكان محور فكرة الحياة الإنسانية: كيف هبط الإنسان من الجنة ففقدها، وكيف أتيح له أن يعود، فيستحقها، ولجلاء هذه الفكرة اتجهت أفضل العقول في ذلك العصر، فكان شرح تاريخ الإنسانية من عمل رجال اللاهوت، والتوفيق بين الطبيعة والتاريخ وتنسيق ما بينهما في نسق عقلي من عمل رجال الفلسفة، وما يلزم اللاهوت والفلسفة من أساليب البحث والمناهج يقدمه المنطق، وأثمر اللاهوت والفلسفة والمنطق مؤلفات عديدة منها «الخلاصة اللاهوتية» للقديس توماس، ويصح أن يقال عنها قطعا: إنها من أعجب وأضخم ما أنتج عقل الإنسان، ولم ير التاريخ مؤلفا مثيلا لها فيما سبقها، ولا فيما لحقها، أحاط بالعالم الواسع إحاطة تامة على هذا النحو الأنيق من الفهم الدقيق المطمئن، وفي الخلاصة اللاهوتية تستقر كل جزيئة في مكانها اللائق بها بلطف الصانع الحاذق ودقته، بحيث يتركب منها ومن أخواتها نسق كامل متماسك مقنع للناظرين.
أراني قد طال مكثي وإياكم في جو العصور الوسطى، وإن طال أكثر من هذا قد تكون العاقبة وخيمة، فلننزل من قمم القرن الثالث عشر إلى منخفضات القرن العشرين، حيث يوجد جو أثقل مما كنا فيه في عل، جو يثقله ما يزخر به من حقائق، فنجد فيه تنفسنا أيسر وأقل نصبا.
2
وبعد فأي معنى نستطيع نحن أن نستخرج، وإلى أي رأي نستطيع نحن أن ننتهي - نحن رجال العلم ورجال التاريخ ورجال الفلسفة في القرن العشرين - من ذلك المركب من اللاهوت والتاريخ ومن الفلسفة والعلم، ومن الجدل ومناهج البحث الذي صنعه رجال القرن الثالث عشر؟ إننا نستطيع دون شك أن نقرأ كلمة كلمة ما احتوته المجلدات الثقيلة المتراصة صفا صفا من أمثال «الخلاصة» وما إليها من مؤلفات تعنى بحفظها دور الكتب، نستطيع حقا أن نقرأها، بل إن أساليبنا الدراسية توجب علينا ذلك، ومن المؤكد أننا سنبذل قطعا في فهمها ما نملك من تدقيق وجهد، بيد أننا - مهما حاولنا - لن نستطيع أن نزعم لأنفسنا أننا نهتم حقيقة بما لها أو عليها من الحجج، وقد تبعث فينا قراءة تلك النصوص شيئا من العجب والإعجاب، بما تجلى فيها من كلف لا يفتر وصبر لا حد له، وتفنن وفطنة عديمي المثال، وإن كنا في زمان قل فيه أن يستولي علينا تعجب ما، فقد أصبح كل شيء معروفا لدينا مألوفا عندنا، وقد نستطيع أيضا أن نفهم تلك النصوص بحيث يمكننا أن نعيد صياغتها في عبارات زماننا، وإن بدت الصياغة سيئة الصنعة، قد نقرأ وقد نتعجب وقد نفهم، ولكن الشيء الذي نعجز عن فعله هو أن نقابل حجج القديس توماس بحجج من نوعها، إننا في الواقع عاجزون عن قبولها وعن تفنيدها، بل لا يخطر ببالنا أن نقوم بالجهد الذي يقتضيه القبول أو الرفض؛ وهذا لأننا نشعر بالغريزة أن الجو الذي نمت فيه آراء القديس وترعرعت هو بالنسبة لنا جو خانق، نحاول فيه التنفس ونكاد ألا نستطيعه، وموقفنا من استدلالاته لا علاقة له بكونها صحيحة أو باطلة، فليست في نظرنا هذا أو ذاك، ولكنها - لا أكثر ولا أقل - غير ذات موضوع، وقد صارت كذلك؛ لأن النسق العالمي الذي استخدمت في تأليفه لا يثير فينا ما يحرك الوجدان أو الشعور بالجمال؛ ولذا صرنا لا نستجيب له.
فالناس في زماننا الحاضر يستحيل عليهم - مهما حاولوا - أن يتصوروا الحياة «دراما» إلهية أولها معروف وآخرها معروف، ومغزاها قد بان واستبان وانتهى الأمر، ولا مناص لنا - سواء أحببنا أم كرهنا - من أن نعتبر العالم في تغير متصل معقد لا ينقطع ولا يهمد، تتلاشى فيه الأشياء وتتجدد؛ ولذلك فالأشياء والمبادئ التي تصدر عنها الأشياء ليست إلا أحوالا «عارضة أو أشكالا زائلة»، أو «نتائج تترتب على اجتماع قوى» لا تلبث حتى تتفرق وتأخذ كل منها وجهتها، وإذا سألنا كيف بدأ هذا التغيير، قلنا إن مبدأه يحجبه غمام كثيف لا ينفذ خلاله بصر أو بصيرة، وإذا سألنا كيف ينتهي، قيل إن النهاية أمرها أكثر وضوحا من البداية، وإن كانت ليست مما يفتن أو يجذب إليه القلوب أو الآمال، وهاك ما تصوره ج. ه. جينز:
كل ما في الكون يدل دلالة لا سبيل إلى تجاهلها على حدوث خلق بفعل واحد معين أو بأفعال متصلة، وأن هذا وقع في زمن أو في أزمنة بعيدة عنا حقا، وإن كان بعدها لا يوصف بأنه لا متناه، ومعنى هذا أن الكون لم يتولد اتفاقا من عناصره الحالية، كما أنه لم يكن على الدوام في الحال التي هو عليها الآن؛ وذلك لأن التولد الاتفاقي من جهة وعدم التغيير من جهة أخرى يقتضيان ألا تنجو من الفناء إلا تلك الذرات التي لا تقبل التلاشي إشعاعا، وبعبارة أخرى يقتضيان انعدام ضوء الشمس وضوء النجوم، على ما هما عليه، وألا يكون حينذاك إلا بريق نور إشعاعي بارد منتشر في الفضاء انتشارا متساويا، وهذا - في الواقع - هو صورة النهاية التي يتصور العلم في طوره الراهن أن الخليقة تسير نحوها، وأنها لا بد بالغتها وإن طال السفر.
Halaman tidak diketahui