Madina Fadila
المدينة الفاضلة عند فلاسفة القرن الثامن عشر
Genre-genre
ألا ينبغي أن يكون المستقبل خيرا من الحاضر؟ فليولوا وجوههم نحوه، نحو أرض الميعاد والبعث الجديد.
المحاضرة الرابعة: فوائد الخلف أو أطوار العلاقة بين الحاضر والماضي والمستقبل
يتكون الزمان الحاضر - بالنسبة للفرد وبالنسبة للجيل - من ماض يستذكر، ومحسوس يدرك، ومستقبل يتوقع، فهو قطعة واحدة نسيجها من خيوط الماضي والحاضر والمستقبل.
وقد مرت العلاقة بين الحاضر وحيزي الزمان المعروفين بالماضي والمستقبل في أطوار، فكانت عند اليونان نظرية الكون والفساد المتكررين في أكوار إلى ما لا نهاية، فالزمان عندهم عدو الإنسان، والتاريخ يتكرر فسادا وكونا أكوارا في غير نهاية، والحياة البشرية يتحكم فيها قضاء جبار لا تفلت منه أبدا، وهي ملحمة بلا خاتمة سعيدة، أو بعبارة أصح بلا خاتمة بالمرة، وأما في الصورة المسيحية فالأمر جد مختلف.
للبشرية عصر ذهبي عند بدء الخليقة في جنة عدن (وهو أبهى وأثبت وجودا من الحلم اليوناني المبهم)، وهو من إنشاء الله الواحد الحق العالم المريد للخير (لا من إنشاء الأبطال في الأساطير اليونانية)، ثم كان الهبوط من الجنة وشقاء البشرية، ولكن الصورة المسيحية فتحت باب الرجاء ، ولا بدع فرسالة المسيحية كانت للمعذبين والمحرومين ومن إليهم من عامة الخلق، فمحت عالما يائسا عاجزا، وأقامت محله عالم الأمل والرجاء، وأكسبت وجود الفرد في الدنيا قدرا وقيمة ومعنى، وعلمته أن سوف تكون خاتمة، وأن الله سيقضي بين الخلق، وأن الأشرار سيعاقبون والأخيار سيثابون.
وهكذا خلصت الصورة المسيحية الإنسانية من أغلال القنوط ورق الأكوار التي عقدتها الوثنية حولها.
وقد لاحظ الفلاسفة في القرن الثامن عشر أن هذا التأويل قد ملك على الناس ألبابهم، وأن من العبث أن يقابلوه إلا بتعديله بفكرة أخرى مشتقة من نفس مصدره: فالمعاني - كالرجال - لا يقع بينها قتال إلا إن تقابلت، وتماست، وتصادمت على مسطح واحد، ولذا نجدهم يعملون من جانبهم على أن يعدوا الإنسانية بعالم أفضل، وهذا العالم الأفضل يكون في المستقبل؛ إذ الحاضر بعيد عن الكمال، وهو أيضا لا يتحقق إلا بجهد الإنسان ومجاهدته في سبيل الإصلاح المطرد، وهذا الجهد يقوم على اتصال جهد الأجيال في الحاضر والمستقبل؛ أي إن الخلف له نصيب في بناء الفكر الحاضر.
ومن المفكرين السابقين إلى هذه الفكرة - فكرة اتصال الأجيال - فرنسيس بيكون، كما كان منهم بسكال، وقد عبر عن هذا في قوله: «يجب أن نعد جميع أجيال البشر التي تتعاقب على مر العصور كما لو كانت إنسانا واحدا، لا يموت أبدا، ويزداد تعلما دائما.» وتتصل بهذه الفكرة أيضا «المعركة» الأدبية المشهورة بين أنصار الأقدمين وأنصار الأحدثين، وكان فونتنيل خير من تحدث في الموضوع، انتصر للأحدثين، وبنى حجته على النظرية الديكارتية في اطراد الطبيعة، بيد أنه في المفاضلة بين القديم والحديث فرق بين العلم والفنون، ففي الغالب لن يفوق الأحدثون الأقدمين في الشعر وسائر الفنون؛ إذ إن مبعث الشعر والفنون في الشعور الوجداني، وأما بالنسبة للعلم فهذا شأن آخر، فالعلم ينمو بنمو المعارف وبارتقاء طرق الاستدلال، والأحدث زمنا يفوق الأقدم في العلم.
وعلى هذا فيدل كلام فونتنيل على أنه تصور وجود نوع من التقدم يجري تدريجا، ولكن لم يدر في خلده أو في خلد أكثر معاصريه أن يتوقع تغيرا تاما وصلاحا كاملا في الأخلاق أو في النظم الاجتماعية، وفرق بين أن يلهو الأدباء بفكرة الأوتوبيا كما أخرجها توماس مور أو بيكون لهوا بريئا، وبين إعدادها لتكون سياسة الغد في فرنسا، ولكن هذا هو الذي حدث في فرنسا قرب نهاية القرن الثامن عشر، دفع المفكرين إليه ازدياد السخط على سوء الأحوال الاجتماعية، واستسهال التغيير، فالدلائل تدل على أن التقدم شيء مطرد، وأن الإنسان قابل للكمال المطلق، وكانت تعرو الفلاسفة - وكذلك زعماء الثورة الفرنسية فيما بعد - لذكر الخلف هزة وجدانية بل ودينية، وأحيانا كان الانفعال يبلغ بهم أن كانوا يجعلون من الخلف شخصا ماثلا يتوجهون إليه بعبارات الابتهال.
وقد لاحظ المؤرخ «دي توكفيل» منذ نحو قرن من الزمان، أن الثورة الفرنسية كانت ثورة سياسية، اقتبست من الحركات الدينية خطط العمل والأساليب، فاكتسبت الشيء الكثير من خصائص تلك الحركات، فتدفقت - كما تدفق الإسلام أو الحركة البروتستنتينية - عبر الحدود بين الممالك والشعوب وانتشرت بالتبشير والدعوة، والثورة الفرنسية تراعي (كالأديان) في اعتبار الإنسان كونه إنسانا لا انتسابه إلى أمة معينة، ولم تقرر الثورة الفرنسية حقوقا خاصة بالمواطنين الفرنسيين، بل قررت حقوق الإنسان وواجباته أينما كان، والثورة الفرنسية عملت على أن تجعل من بني الإنسان خلقا جديدا أكثر مما عملت على إصلاح أحوال الأمة الفرنسية، ولهذا كله بعثت الثورة في أنصارها وفي خصومها على السواء من الانفعال والحدة والحمية ما لم يعهد له مثيل من قبل في أشد الثورات السياسية عنفا؛ ولهذا أيضا نشط أنصارها لتنظيم الدعوة إليها، بل وامتشقوا الحسام لحمل الناس على الإذعان لها.
Halaman tidak diketahui