Madina Fadila Cabr Tarikh
المدينة الفاضلة عبر التاريخ
Genre-genre
وهناك كذلك نوع من التقشف تدعو إليه الضرورة، فلا يستطيع المرء أن ينعم بوقت الفراغ أن ينغمس في نفس الوقت في الإسراف في الملذات: «فيما يتعلق بالملابس أيضا، فما أقل الجهد والعمل الذي يحتاج إليه. ذلك أنهم من ناحية يرتدون أثناء العمل لباسا بسيطا من الجلد، يبقى سبع سنوات. وعندما يخرجون إلى الخارج يضعون فوقه رداء يغطي ملابس العمل الخشنة إلى حد ما. وهذا الرداء من نفس اللون في الجزيرة كلها، وهو لون الصوف الطبيعي. ونتيجة لذلك لا يحتاجون فقط إلى كمية أقل من الصوف عما يحتاج إليه غيرهم، بل إن ذلك يكلفهم أقل كثيرا. ومن ناحية أخرى، لما كانت الأقمشة القطنية تصنع بجهد أقل، فهي تستخدم بقدر أكبر. أما فيما يتعلق بالأقمشة القطنية، فكل ما يهم هو بياضها، أما الصوفية فما يهم هو نظافتها. ولا يقام وزن لرفع التيلة. وهكذا، بينما لا يكتفي الشخص في البلاد الأخرى بأربعة أو خمسة أثواب صوفية مختلفة الألوان، ومثل هذا العدد من الأقمشة الحريرية، بل لا يكتفي ذوو الأذواق المرهفة بعشرة منها، ففي يوتوبيا يقنع الرجل برداء واحد يظل معه سنتين عادة. وبالطبع ليس هناك ما يدعو لأن يرغب في أكثر من ذلك، إذ لو كان لديه أكثر من واحد لما كان أكثر وقاية من البرد، ولما بدا أحسن هنداما على الإطلاق. ومن هنا، فلما كانوا جميعا يمارسون أعمالا نافعة ويكتفون بقدر أقل من منتجات هذه الأعمال، فعندما تتوافر كل هذه السلع، فإنهم أحيانا يأخذون جمعا غفيرا من الناس لترميم أي طرق عامة تحتاج إلى ترميم. وفي كثير من الأحيان، أيضا، عندما لا يكون هناك شيء حتى من هذه الأعمال، فإنهم يصدرون بيانا للشعب بتخفيض ساعات العمل . ذلك أن السلطات لا تجبر المواطنين على القيام بأعمال غير ضرورية، لأن دستور دولتهم يهدف في المكان الأول إلى أنه فيما يتعلق بالمواطنين جميعا، وبقدر ما تسمح به حاجات الشعب، يجب توفير أكبر قدر ممكن من الوقت الذي يقضي في خدمة الجسد، وتخصيصه لحرية العقل وتثقيفه. فهم يعتقدون أن في ذلك سعادة الحياة.»
32
لقد رأينا أنه لا توجد بالفعل ملكية خاصة في يوتوبيا، لا نقود ولا أجور، فكل فرد يتسلم ما يحتاج إليه. وهنا يستبق مور مرة أخرى الاعتراضات الحتمية التي يمكن أن تثار ضد نظام كهذا، ويؤكد أن الشعور بعدم الأمان الاقتصادي هو الذي يدفع الناس إلى تكديس كميات من البضائع الصالحة للاستعمال بأكثر مما يحتاجون إليه بالفعل: «تتوافر كميات كبيرة من كل شيء، ولا يخشى من أن يطلب شخص أكثر مما يحتاج إليه. فلماذا يشك أحد في أن شخصا سيطلب كمية أكبر مما يحتاج إليه ما دام واثقا من أنه لن يفتقر إلى شيء على الإطلاق؟ فما لا شك فيه أن الجشع والطمع منشؤهما في كل نوع من الكائنات الحية هو الخوف من الحاجة ...»
33
لقد استبعد بناة الدول المثالية اليونانية المؤسسات الأسرية بوصفها مضادة لوحدة الدولة. وكان توماس مور «رب أسرة» أكثر بكثير من أن يتقيد برأي أثينا أو أسبرطة، ولكن لا بد أن يكون قد أدرك خطر الأسرة اليوتوبية، التي يرجع تماسكها إلى سلطة العضو الأكبر فيها والعمل المشترك بين أفرادها على تجانس الجماعة. ورغبته في تجنب هذا الخطر هي التي حملته على إدخال نظام الوجبات المشتركة، وإن لم يجعلها إجبارية كما فعل ليكورجوس. ويلاحظ فيما يتعلق بهذه الوجبات أن مور يلطف بعض الشيء من صرامة مبادئ التقشف التي كان يقول بها: «تجتمع الأسر الثلاثون أو السيفوجرانت كلها في الساعات المحددة للغداء والعشاء، يدعوها لذلك صوت نفير نحاسي، فيما عدا أولئك الذين يتناولون وجباتهم إما في المستشفيات وإما في بيوتهم. ولا يمنع أي شخص بعد أن يقدم الطعام للقاعات، من أن يأخذ طعامه إلى بيته من السوق ، فهم يعرفون أن أحدا لن يفعل ذلك دون سبب معقول؛ لأنه بالرغم من أنه لا يمنع شخص من تناول الطعام في بيته، فإنه لا يوجد شخص يفعل ذلك راضيا، إذ لا يعد هذا السلوك سلوكا سويا، ولأنه من الحماقة أن يتجشم المرء مشقة إعداد وجبة رديئة، بينما هنا وجبة ممتازة شهية معدة جاهزة في القاعة القريبة منه ...
ويجلس الأفراد إلى ثلاث موائد أو أكثر تبعا لعدد الجماعة. ويجلس الرجال وظهورهم إلى الحائط، أما النساء فيجلسن على الجانب الخارجي حتى إذا ما ألم بهن ألم أو قيء، كما يحدث أحيانا في حالة الحوامل من النساء، أمكنهن القيام دون إزعاج لأحد، والذهاب إلى المربيات. أما المربيات فيجلسن وحدهن مع الأطفال في حجرة للطعام مخصصة لهذا الغرض، لا تخلو في أي وقت من الأوقات من مدفأة وكمية من الماء النقي ومن المهود. وهكذا يمكن للنساء أن يرقدن أطفالهن.
وفي الأماكن المخصصة للمربيات يوجد جميع الأطفال حتى سن الخامسة. أما بقية الأطفال والشباب من كلا الجنسين ممن هم دون سن الزواج، فإما أن يقوموا بتقديم الطعام، وإما أن يقفوا بالقرب من الموائد في سكون تام، إن لم تتوافر لهم السن اللازمة أو القوة اللازمة. ويأكل أفراد كل من المجموعتين ما يقدم لهم على المائدة وليس لهم وقت آخر لتناول الطعام.
ويجلس الرئيس أو السيفوجرانت وزوجته وسط المائدة الرئيسية، وهو أعلى الأماكن، ومنه يتسنى لهما رؤية الجماعة كلها، إذ تقع هذه المائدة في وضع أفقي في الطرف البعيد لحجرة الطعام. وبجوارهما يجلس اثنان من أكبر الموجودين سنا، إذ يجلس دائما كل أربعة إلى مائدة. أما إذا كان هناك مكان للعبادة في المنطقة أو السيفوجرانتية، فيجلس الكاهن وزوجته مع السيفوجرانت ويرأس هو المائدة. وعلى الجانبين يجلس بعض الشباب، ثم بعض الشيوخ مرة أخرى، وهكذا في جميع أنحاء الدار، يجلس من هم في نفس السن معا، ولكنهم يختلطون مع من يختلفون عنهم في السن. ويقولون إن السبب في هذا النظام هو أن يحول سلوك الشيوخ الوقور المحترم بين الشباب وبين إباحية الحديث أو السلوك، فمن المستحيل أن يوضع شيء على المائدة أو يقال شيء دون أن يلاحظه الشيوخ في كل جانب. ولا تقدم صحاف الطعام بانتظام ابتداء من المائدة الأولى تليها ما بعدها، بل تقدم أولا إلى جميع الشيوخ الجالسين في أماكن بارزة. ثم تقدم أجزاء متساوية إلى الباقين. ويقتسم الشيوخ كما يرون، جزءا من أطايب طعامهم مع من يجلسون إلى جوارهم، عندما لا يتوافر في الدار ما يكفي منها للجميع. وهكذا ينال الشيوخ ما يستحقون من تكريم، ومع ذلك يحصل الجميع على نفس القدر من الاهتمام.
وتبدأ كل وجبة غداء أو عشاء بقراءة هادفة متصلة بالأخلاق وحسن السلوك على أن تكون قصيرة لا تؤدي إلى الملل. ويعرض الشيوخ، استمرارا لما قرئ، لمواضيع ملائمة للحديث، لا هي بالقاتمة أو المملة. ولكنهم لا يستأثرون بالحديث طوال فترة الطعام، بل يرحبون بسماع الشباب أيضا والواقع أنهم يستدرجونهم إلى الحديث عمدا، ليختبروا قدرة كل وشخصيته، مما يتكشف في جو المائدة الخالي من القيود. ووجبات الغداء لديهم قصيرة بعض الشيء. أما وجبات العشاء فأطول، لأن وجبة الغداء يتبعها عمل، أما وجبة العشاء فيتبعها النوم والراحة طوال الليل. ويظن اليوتوبيون أن هذه الراحة تساعد على سرعة الهضم. ولا يمر عشاء دون موسيقى، ولا تفتقر الحلوى إلى شيء من الأطايب. وهم يحرقون البخور، وينثرون العطور، ولا ينكرون شيئا يمكن أن يدخل السرور إلى قلوب الجماعة إلا ويعملونه. فهم شديدو الميل بشكل مفرط بعض الشيء إلى هذا الاعتقاد، وهو ألا يمنع نوع من أنواع المتعة لا ينجم عنه ضرر.»
34
Halaman tidak diketahui