يرى زعماء الغزاة أولا أن الشعوب المغلوبة تملك أسرارا يجهلونها يقلبون بها ما يبدو لهم خبرة تافهة إلى متعة غزيرة. وسرعان ما يتأثر الملك الهمجي بنفوذ الثقافة الأعلى ويغري بها فيبدأ في الاعتماد في لهوه - ثم فيما بعد في مشورته - على النساء والرجال من العنصر «الأحط». ثم سرعان ما يحتل هؤلاء - بسبب تفوقهم في الإدراك والمعرفة - مكان الثقة والشرف والمنفعة، حتى يصبح الملك في النهاية نصف متمدن، ويتحول معه إلى المدنية الأذكياء من رفاقه القواد وكبار الإقطاعيين. وفي هذه اللحظة بالذات تبدأ الطبقة الأقل ذكاء في تذمرها، ويزداد تمردها، وتنظم معارضة رجعية. عندئذ يكون الملك - لحسن حظه - والزعماء والمرافقون له الذين تأثروا بمن يفضلونهم من الشعب المغلوب، يكون هؤلاء بدورهم قد علموا عددا كافيا من الحشد التابع لهم يقابلون به المدافعين القدامى عن الوحشية التقليدية، وهكذا تفعل الخميرة فعلها: لقد تمدن المغول الغزاة إلى درجة ما على يد الصينيين والفرس الذين غلبوهم، ولاقت جيوش العرب نفس هذا المصير في فارس والهند ومصر، وكذلك تمدن الفاتحون الميديون الأوائل فيما بين النهرين، ونستطيع أن نراقب في روما خلال القرن الأول النزاع بين سذاجة الرومان ومدنية الشرق المغلوب. فكاتو وتيبريوس لم يرتفعا إلى مستوى أوفيد وجوليلي، ومع ذلك فإنا نجد في القرن الثاني شيئا أشبه بالحضارة مما كان يتوقع المرء صدور بهذه السرعة عن الهمجية المظلمة التي خيمت على تلك الجمهورية المروعة، وقد بذل الزعماء حتى في تلك الشعوب التي دخلت الإمبراطورية واستوطنتها في النهاية بعض الجهد - ولكنه جهد متأخر ضعيف - لكي يفيدوا من الثقافة الأعلى التي عرف بها الرومان الإقليميون. بيد أنهم فشلوا، ويرجع السبب الأول في ذلك إلى أن رجال الأقاليم لم يكونوا متمدنين ولم يكن عددهم كافيا للقيام بهذه المهمة. ومن أجل هذا فلم يكتسب البرابرة سوى أهداب من الثقافة براقة يتزين بها بلاط شرلمان والملوك من بيت أوتو الذي يدعو إلى الرثاء، ولو أنهم تثقفوا ثقافة حقيقية لجنبوا أوروبا العصور المظلمة.
وقد تنشأ وسائل المدنية، وقد توجد الحكومة المحسنة التي تنفق على طبقة متفرغة مثقفة، وتكفل الأمر، وتبيح حرية التعبير في الفن والفكر والحياة، وتنهض بالتعليم وتحد من العمل، ولكن يبقى أمر واحد لا بد منه لكي تخرج المدنية إلى حيز الوجود، وذلك هو الإرادة - إرادة المدنية، وهي قد لا تعدو أن تكون الرغبة في المتعة بعد تهذيبها وسيرها في اتجاه ذهني، ومن الحماقة أن نفترض أن هذه الرغبة عميقة الجذور بعيدة الغور في الطبيعة الإنسانية، وليس أقل من ذلك حماقة أن نعتقد أنها لم توجد قط، وإذا كانت إرادة المدنية لم توجد قط، فكيف خرجت المدنية إلى الوجود؟ هل كان ذلك بالحظ؟ هل خرج الناس من فوضى الهمجية إلى نوع من أنواع النظام بالحظ؟ ولماذا يخرجون؟ إذا كانت هناك حالات قريبة من المدنية، وإذا كانت هناك مدنيات رفيعة، أليس من الحماقة أن ننسب ذلك كله وما يتطلبه من مجهود جبار أليم إلى المصادفة؟ ومن ناحية أخرى، لما كانت المدنية في بعض الأماكن لم تتقدم قط، وفي أماكن أخرى ارتفعت عن مستوى التأخر لتغوص فيه ثانية، وفي أماكن كثيرة نراها تقطع من الشوط بعضه ثم تعجز عن مواصلة المسير، وقلما كان الدافع قويا مستمرا إلى درجة يتمكن بها من رفع المجتمع إلى مقربة من المثل الأعلى المتواضع المعقول، إذا كان الأمر كذلك فمن الحماقة أيضا أن نفترض أن إرادة المدنية التي ذكرناها ظاهرة موحدة في كل مكان، ثابتة، أساسية في الطبيعة البشرية. هناك أسباب عدة تحول دون اعتقادنا في استمرار التقدم، وهناك كذلك أسباب عدة تحملنا على الاعتقاد بأن المستوى الحالي لما نسميه عامة بالمجتمعات المتمدنة ينخفض كثيرا عن الحد المطلوب، وليس هناك من الأسباب ما يدعونا إلى أن نفترض بأن المجتمع سوف يصل إلى هذا الحد أو يعلو عليه، أو أنه لن يبلغه. كل ما نؤكده هو أن الناس لرغبتهم الدائمة في الاستمتاع بالملذات، يوجهون رغبتهم هذه أحيانا توجيها ذهنيا، ويعتقدون أحيانا أخرى أن الملذات أندر وأبعد وأدق من تلك التي تسوق إليها الغرائز، وإنهم أحيانا يحققون هذه الملذات، ومن الجلي أن المدنية لم تكن هدف ذلك الهمجي الذي أخذ الأرنب إلى بيته وطهاه ؛ بيد أنه تصور واشتهى متعة أدق وأبعد من متعة التهامه نيئا، وهكذا نرى أن الناس بتصورهم واشتهائهم قد يحققون المدنية في نهاية الأمر.
ليس من شك في أن إرادة المدنية قد وجدت، وأنها ربما لم تختف قط من الوجود، ولكنها اختلفت من مكان إلى مكان ومن وقت إلى آخر اختلافا شديدا من حيث قوتها وكفايتها، وهذه الإرادة - من الوجهة النظرية - يجب أن تسير جنبا إلى جنب مع إرادة الخير، التي يزعم بعض الفلاسفة أنها موجودة دائما وأنها وجدت في كل مكان، ومن سوء الحظ أنه من العسير أن نميز بين الغايات والوسائل حتى إن رجال الأخلاق العمليين يخطئون دائما فيحسبون وسائل الخير العتيقة غير المباشرة الخير ذاته، ومن ثم فإن إرادة الخير لا تعين إرادة المدنية دائما فحسب، بل إنها تعرقل سيرها أحيانا عرقلة إيجابية. إن إرادة الخير كثيرا ما توجه نشاطها إلى ما كان في وقت ما وسيلة بعيدة، وهي بذلك تقف عقبة في سبيل الوسائل المباشرة والقريبة. في لحظة معينة من تاريخ أي مجتمع قد يكون شكل الحكومة، أو الدين، أو الناموس الخلقي، وسيلة للخير وللمدنية، ولكنه بعد أن يؤدي غرضه بوقت طويل، وبعدما يصبح أداة تعطيل بوقت طويل، ترى كثيرا من دعاة الخير لا يزالون يكرسون حياتهم للإبقاء عليه، فقد كان الإصلاح البروتستنتي في شمالي أوروبا - من غير شك - وسيلة الخير بمقدار ما كان وسيلة لتطهير العالم من مجموعة من الخرافات. بيد أن هذه الوسيلة، التي بولغ فيها حتى أصبحت غاية من الغايات، وأمست في نهاية الأمر حركة بيوريتانية (تطهيرية) - تركز جهدها في بعض العقائد الدينية والخلقية - وربما وقفت في إنجلترا عقبة وحائلا في سبيل إرادة المدنية أكثر من أي شيء آخر. إن البيوريتان - برغم كل نواياهم الطيبة - أعداء الخير؛ لأنهم يجعلون الاستمتاع بالحالات العقلية الطيبة أشق على أنفسهم وعلى غيرهم مما ينبغي. إنهم يعلقون على ما كان في وقت من الأوقات وسيلة للخير أهمية لا تتعلق إلا بالغاية، ثم يصرون على هذه الوسائل العتيقة فيعوقون بذلك انتشار الوسائل التي تفضلها في تحقيق الأغراض؛ لأنها أكثر منها ملاءمة، ومن ثم فإن العفة التي ربما كانت من الفضائل في عصر الحيوانية القصوى حينما كان القوم يخرجون للرعي وللغزو والنهب مسلحين، وحينما كانوا لا يمتطون الدواب الاغتصاب النساء - هذه العفة لا يزال لها في القرن العشرين من يصرون على أنها وسيلة للخير تفضل مزايا عيادات الأطباء الشائعة التي تقوم بالتحكم في النسل، ولا يمكن الناس أن يأملوا في التفريق بين الغابات والوسائل أو بين الوسائل المباشرة والوسائل البعيدة إلا بعد أن يتكون لديهم إحساس بالقيم، بشرط أن يكون ذلك في جو من التجرد العقلي. إن الوسائل غير المباشرة تختلف من عصر إلى عصر ومن قطر إلى آخر، وقيمتها محدودة وموقوتة، وتطبيقها محلي، وإلى أن يدرك هذه الحقيقة المحبون للخير فلا بد أن ينصرف جانب كبير من نشاطهم الخلقي إلى الحث على وسائل تناقض ما يهدفون إليه من غايات، وتمسي إرادتهم للخير إرادة سيئة لتلك الوسيلة التي هي أدنى إليهم - وأعني بها المدنية.
ما أكثر ما في إنجلترا من نشاط خلقي أميل إلى وصفه بإرادة للخير منحرفة، ولكن هل هناك إرادة للمدنية؟ إن قدرا كافيا من الدخل غير المكتسب يعول عددا عديدا من العاطلين، بيد أن هذا الدخل يساء إنفاقه، والعاطلون جاهلون، ومن ثم فإن مجموعة المتمدنين في إنجلترا المعاصرة - وإن كنت لا أشك أن بها بضعة آلاف بلغوا من رقي المدنية ما بلغه أي عدد فيما مضى - هذه المجموعة أصغر من أن تكون تلك النواة الفعالة التي تحول الثقافة السلبية إلى قوة ممدنة، وهذه المجموعة - على قلتها - يتضاءل عددها تدريجا. إن روح العصر تقف في وجوههم، ويعترض سبيلهم الإيمان بالعمل، والرأي الذي ينادي بأن الناس إنما أتوا إلى هذا العالم لجمع المال، ولمباريات اللعب ، وارتياد دور السينما وحلبات السباق، وسوق العربات، وإنجاب الأطفال. ذلك هو مذهب المنتجين، ومن يؤمن به لا يفيد من العمل الذي لا ينتج اقتصاديا، أو من الملذات الدقيقة الشاقة. من يؤمن به لا يريد المدنية ، ولكنه يملك النفوذ والسلطان.
إن حكومة إنجلترا تقوم على أساس التوفيق الاعتباطي بين كبار أصحاب الأجور وصغارهم. هي حكومة الأغنياء يخفف من غلوائها نقابات العمال، وحكومة الأغنياء هي صاحبة الكلمة الفصل في السياسة في الوقت الحاضر، وهي التي ترسم طريق الحياة، ولا يعرف هذا الطريق تمام المعرفة إلا أولئك الذين يطالعون الصحف المصورة اليومية والأسبوعية، وهذه الطريق هي ما يريده الناس، وهي أيضا ما يسمونه المدنية، وهي التي حاربوا من أجلها لإرضاء الأغنياء، والتي قد يحاربون من أجلها لإرضاء أنفسهم؛ لأن التوفيق المنشود بين كبار الكاسبين وصغارهم أمر اعتباطي، ولا يفتأ الصغار يخالفون الوصية العاشرة؛ ومن ثم كان هذا الحديث الذي لا ينقطع عن الثورة. والأمر العجيب أن هناك دائما متفائلين ممن يحبون البشرية يتوقعون خيرا من مثل هذه الثورة. إنهم يلومونني جهرا؛ لأني لا أميل إلى التخلي عما أملك أملا في الحصول على ما يظنون أنه ربما كان وسيلة لما هو أحسن. إنهم يؤكدون لي «أن الناس لو تركوا وشأنهم لتحققت كل آمالك في المدنية في لحظة، وينبغي لك أن تعلم أن الناس دائما يحبون الخير والجمال - يحبون الأرقى حينما تقع عليه عيونهم؛ وهنا تقع الطريق التي تبحث عنها».
وإن كنت برغم هذا النداء لم أتخل عن الدرس لأنصرف إلى الحياة العادية، فإنما يرجع ذلك إلى أن العامل الراقي - الذي يترقبون تطوره عن العامل المعروف في إنجلترا من قديم - لا يبدي أية رغبة ملحة للإفادة من وسائل المدنية التي تقع تحت يديه، بل إنه ليبدو لي أن مطامعه تتجه وجهة أخرى، وبدلا من أن أكتشف بين العمال أية إرادة للمدنية، أجدني مساقا إلى الظن بأن العامل البريطاني يحب همجيته حبا جما، بل إنه ليريد المزيد منها. إنه لا يجد مغمزا في جنة المنتفعين حتى إنه ليود لو كانت له، وهو لا يتطلع إلى ثورة مجيدة لكي يعيد تشكيل الحياة فيقربها من المثل الأعلى، بل لكي يسلك مسلك الأثرياء، والواقع أن العمال المأجورين وأصحاب رءوس الأموال على اتفاق تام في كل أمر من الأمور إلا فيما يتعلق بتقسيم الغنائم. إن العامل في منجم الفحم الثائر لا يتطلع إلى حياة أفضل من حياة صاحب المنجم الرجعي. إنه يتطلع إلى شرب الروم واللبن قبل الفطور، وإلى فطور من أربعة أصناف، وإلى يوم يقضيه في الصيد والقنص، أو في لهو لا تسفك فيه دماء، وإلى الشمبانيا في العشاء، والسيجار الطويل بعد العشاء، وإلى مساء يقضيه في دار الصور المتحركة أو في قاعة الموسيقى، إلى أن يقرأ بين الحين والحين لمس كورلي وميخائيل آرلن، وفي صحيفة «مرور» و«جون بل» أو مجلة «ستراند». هو يعتقد في كل حين اعتقادا نظريا ثابتا في قداسة رباط الزوجية وفي بغض الأجانب والفنانين والمتحذلقين بغضا صادقا، وإن هذه الحياة لتلائم بل جونز كما تلائم لورد ميدنهد. إنها الحياة التي يعجب بها ويفهمها، ولذلك فهو - بطبيعة الحال - يحبها لنفسه. ومن أجل ذلك كان ثائرا، وإنك لتقدر مركزه، وإنك لتدرك تمام الإدراك أنه يود لو استطاع أن يتبادل مع اللورد مكانته، وإنك كذلك لا ترى مانعا من ذلك، بل إنك - أهم من ذلك كله - لا ترى سببا يدعوه إلى أن يتوقع العطف والإعجاب من رجل يقف موقف الحكم المحايد إزاء ما يود أن يسميه «بالنضال من أجل الحرية والعدالة». إن الشد والجذب بين جونز وسيده على ثمار الهمجية أمر يخصهما وحدهما دون سواهما، وليس هناك من الأهداف العامة في هذا النضال ما يتعرض للخطر فيثير أولئك الذين يقفون خارج حلبة النضال. إن من يهتم بالمدنية وما إليها لا يهمه البتة من يحصل على السيارات وحفلات الكوكتيل، وسواء عنده من ينتمي إلى نقابة العمال ومن ينتفع؛ كلاهما تافه، عامي، ساذج، عاطفي، شره، عديم الإحساس، وحيث إن كليهما يسعده أن يبقى كما هو، فلا ينتظر لأحدهما أن يتحسن. إن إرادة المدنية قد توجد بين الفدا في سيلان أو بين الميجي في ساحل الذهب، ولكن بادرة منها لا نظهر في سوق الأوراق المالية أو في مؤتمر نقابات العمال.
Halaman tidak diketahui