لأن الخرافة أمر يحول دون الرجل وإحساسه بالواقع، وتحرمه من تلك الخبرة الغزيرة المثيرة، وهي إدراك الواقع. إن إدراك الحق ورؤية الشيء ذاته، خبرات توازي الحب والاستمتاع بالجمال، ولكن كيف يتوفر لمن يرقب السماوات ذلك الإحساس الذي يتولد عن ظهور كوكب جديد في محيط بصره إذا كانت الخرافة ترغمه على الاعتقاد بأن السماء إناء مقلوب، والنجوم خصاصات يتطلع خلالها الآلة، وإنه ليست هناك كواكب ؟ وكما أن العاشق يرى معشوقته دائما خلال سحب من الخيال، فلا يدرك قط تلك المتعة السامية التي تنشأ عن ذلك الإدراك الكامل عند إنسان آخر، أو عند موجود آخر، له ما للعاشق من واقع، فكذلك من يتدبر الكون خلال منظار الخرافة لا يمكن أن يدرك ذلك الإحساس الذي يقابل إدراك الحقيقة العارية وقبولها في حماسة شديدة. الخزانة تختلس من العاطفة باعثا من بواعثها الدقيقة، ولا تكتفي بذلك، بل إنها بفرض حدودها على العقل المتنقل تحرمنا لذة من أدق وأرق ملذاتها؛ لأن العقل - وإن كان لا يموت - يتبلد ويترهل في الأسر. إن العقل يستطيع أن يمدنا بكل ما يجعل الحديث مسليا والمجتمع لامعا - النكتة، والتهكم، والتناقض، وحضور البديهة، والعبث العقلي - على شريطة أن يتحرر العقل. يجب ألا تكون هناك محرمات، أو موضوعات لا يجوز المساس بها؛ لأنك لن تظفر من العقل الذي يرسف في الأغلال بشيء خير من مقال رنان أو نكتة عملية. يجب أن يتحرر العقل ليتناول كل ما في السماوات والأرض، لا جادا فحسب بل هازلا كذلك. إنه يستطيع أن يكون مجيدا كالنسر يمتد بصره إلى آفاق بعيدة، ولكنه كذلك كالنسر لو أصابه الكساح تخبط في الظلام. كل ما يكون، وما كان، وما يمكن أن يكون، ألاعيب ملائمة بين يديه. ولكن الخرافة تحصر ميدانه الذي يلعب فيه في طاولات محدودة، وفي هذا المجال، الذي تحده التقاليد الجامدة. يعشي بصره ويصبح صبيانيا في حركاته. فيقف التأمل المثير عند حد، وتنتهي دقة التفكير العقلي. الخرافة تختلس من العقل مجده وجانبا كبيرا من لهوه، وقد أدرك ذلك القرن الثامن عشر، فأعلن الحرب على الخرافة.
إن المتسامحين الذين لا يؤمنون بالخرافة لا يحتمل أن تقسو قلوبهم قسوة شديدة، إلا إن كانوا عن طريق الصدفة ممن يجدون لذة في تعذيب الناس وفي القسوة لذاتها، وهي صفة لا تفشو بين المتمدنين أكثر مما تفشو بين المتوحشين، ومن المؤكد أنهم يمقتون القسوة التي لا تنفع، وأنهم ليرون أن أكثر الأعمال التي تتسم بالقسوة لا تضر ولا تنفع. كان القانون في أثينا يحرم التعذيب، كما كان يمجه روح الشعب الأثيني، وحينما كان هذا الشعب يقوم جماعة بعمل وحشي غير مألوف، كان يحس إحساسا جماعيا بالخجل، ومهما يكن من أمر، فإن هذا الإذلال كان أندر في وقوعه من أن يعد صفة من صفات المدنية. إن الفردية الصارخة في عهد النهضة أنجبت حشدا من الرجال الممتازين، وقل منهم من نجا من وصمة تلك الصفة المقززة التي كان يتميز بها أبناء الطائفة التي ينتمون إليها. لقد تركوا سجلا من أعمال الوحشية الهائجة التي لا تهدف إلى غرض، سجلا لا يفوت المؤرخ المضني أن ينعم النظر فيه، بيد أن أكثر جرائمهم كانت عملية إلى حد بعيد، ولو ذكرتم - وقد دعوتكم أن تذكروا - أن هذه الجرائم الشخصية كثيرا ما كانت تقوم مقام الحرب، لتساءلتم إن كان من حق عصرنا هذا أن يلقي بالحجر الأول في وجه ساسة النهضة، وقد بلغت الروح الإنسانية عند الفرنسيين في القرن الثامن عشر حدا دعا الجمهور إلى الشعور بالاشمئزاز الشديد حينما اكتشف أن كالاس قد حكم عليه بالإعدام ظلما. وكذلك فلتير لم يمت ميتة غامضة في السجن كما كان من الجائز أن يحدث له في القرن العشرين، وفي عصر الإيمان كان لا مناص للناس من أن يرتابوا في إدراك ما كان يثيره من موضوعات، وكان لا مندوحة لهم عن إحراقه برغم هذا. لا مفر لعصور الخرافة من أن تكون قاسية؛ لأن من خرافة العقيدة عندهم دائما أن الألم وسيلة طيبة، وهو مبدأ يدين به خاصة أولئك الذين يخجلون من الاعتراف بأنهم يعتبرونه غاية طيبة. إن حب التعذيب عند الشواذ في عصور المدنية لا يخرج عن أن يكون بقية من بقايا الهمجية.
إن العقل يميل دائما إلى فحص تلك الغرائز والذكريات الهمجية التي هي بمثابة مصادر الأهواء ومكان عبادتها؛ لأن الأهواء تصدر إما عن رد الفعل الجثماني، كما يصدر بغضي للجبن، أو من المحرمات المنسية التي كان يمتنع عنها آباؤنا المتوحشون، وما زالت من الشابات حتى يومنا هذا في أواسط أفريقيا من يعشن عيشة مريرة من جراء تكرار رؤيتهن للقمر فوق أكتافهن اليسرى؛ في حين أن غيرهن يتسلل إلى الغابة في فزع دائم إذا فاجأن الابن الثاني لعم إحدى خالاتهن، ومن اليسير على الفتاة أن تفقد شخصيتها في الكنغو كما تفقدها في مدينة كتدرائية. إننا ندين بأكثر مما نظن لجداتنا البعيدات، وقد حدثنا سرأد مندجوس كيف كان اعتقاده بأنه ارتكب إثما في حق الروح القدس عبئا ثقيلا على كاهله في بعض سني طفولته. كما بين لنا مستر جيمس جويس منذ عهد قريب فقط في تلك الدراسة العجيبة التي شرع فيها ولم يتم نضجها أن العقل الذي ما لبث ملوثا بالخرافة يمكن أن يتعذب إلى حد الجنون تقريبا عندما يذكر أنه ارتكب ما يرتكبه أكثر الأطفال وفكر فيما يفكرون فيه. وإني أعترف أن تأنيب الضمير، الذي يشعر به كل إنسان حساس إزاء القسوة العشواء التي صدرت عنهم والملذات التي تمادوا فيها، ليس له من علاج، ولكن ذلك الشعور بالإثم، الذي ما زال يشكو منه كثير من ذوي النيات الطيبة، والذي يحملون كثيرين غيرهم على الشكوى منه، هذا الشعور - بصفة عامة - لا يعدو أن يكون أثرا من آثار الهمجية تمكن معالجته، وعلاجه في حب المعرفة الذي يقوى ويشتد كلما ارتفع الإنسان في سلم الحضارة.
إن المتوحشين يتطلعون إلى المعرفة، ولكنه تطلع محصور وفي نزوات، فهناك عدد معين من الحقائق لا يجسرون على تخطيها في البحث، وهم لا يجسرون على بحثها إلا بأسلوب معين. إنهم لا يطلبون الحق، وإنما يطلبون السلامة. تطلعهم غريزي، لا عقلي، ولا تستطيع أذهانهم المحشوة بالمخاوف أن تحولها إلى معرفة. ولكن لما كان أحد لا ينكر أن الجهل - كما تدل عليه هذه الكلمة عامة - صفة من صفات الهمجية، فلست في حاجة إلى مزيد من الإيضاح لهذه النقطة أكثر من حاجتي إلى التدليل بالأمثلة على التطلع الحي عند أهل أثينا في عهد بركليز، وأهل فلورنسا في القرن الخامس عشر، والفرنسيين في القرن الثامن عشر، ولا بد لي من أن أؤكد نتيجة واحدة من نتائج هذا التطلع عند المتمدنين، وهي أن الشعوب المتمدنة تستطيع أن تناقش أي موضوع من الموضوعات، لا يحرم عليهم واحد منها ما دام لديهم ما يذكرون بصدده مما يبعث في النفس متعة أو سرورا. ليست هناك في المجتمعات المتمدنة مخاوف عقلية نتوقع من كبار السن صغار العقول أن يغمضوا أعينهم عند رؤيتها، وسوف أستفيض بعد حين في حديثي عن «محاورة المأدبة» ويكفيني الآن أن أذكر أننا نستطيع - من صورة الحديث المثالي بعد تناول العشاء التي لا مثيل لها - أن نرى أنه لم تكن هناك موضوعات يحرم الحديث فيها بين أي جماعة من الأثينيين المثقفين. ويعلم وارسود يكامرون - وقد كان خلال قرنين أحب القراءات عند رجال إيطاليا ونسائها في طول البلاد وعرضها - أنه في عصور بترارك وكوسيمودي مديشي وميخائيل أنجلو، لم يكن ما يعرف «بحقائق الحياة الكبرى» ولا أشد النظم احتراما أو أكثر الأشخاص تقديسا، لم يكن ذلك مما لا يصح أن يتعرض للنقد الحي الجريء، وإذا أردت أن تعرف بأية نظرة حرة كان السيدات والسادة في القرن الثامن عشر ينظرون إلى عالم الحقائق والآراء فإني أوصيك «بأحلام دالمبير» الذي يقدم مؤلفه ديدرو جزءه الثاني - وهو أكثر الأجزاء صراحة - على شكل خواطر يتفوه بها دالمبير في نومه، وتدونها مدموازيل لسبناس؛ في حين أن الجزء الثالث، وهو أشد الأجزاء إثارة للذعر، يتألف من حديث خيالي، ليس من الجلي مستحيلا - بين مدموازيل لسبناس ومسيو بوردي.
إن أردتم مجتمعا متمدنا، فلا بد من أن يتحرر العقل فيعالج كيفما شاء كل ما يمر بخاطره، ولا بد أن يكون حرا في اختيار مصطلحاته وعباراته وصوره، وأن يتعرض لكل أمر بأي أسلوب يريد، يجب ألا تكون بالبيت غرفة محرمة (غرفة بلوبيرد). لأنك إن حرمت على العقل أن يرود إحدى حجرات البيت حكمت عليه بالتجول الأعرج في باقي الحجرات. من أجل هذا كان تكلف الحشمة عدوا خطرا، وهو أشد خطرا؛ لأن ما يزعمه يثير السخرية. من الجلي أن ما نقبله أو لا نقبله في العاطفة أو التعبير أمر من أمور الذوق. فذوقي لا يسيغ تلك العاطفة التي تحتويها أكثر الأغاني التي تمس قلوب الناس - مثل أغنية «مع السلامة» أو أغنية «سكت القلب» - والتعبير فيها منحط، ولكني برغم ذلك - لا أشير بكبتها عنوة من أجل هذا، فإني أقر بأن ذوقي يختلف عن ذوق زملائي، ولكني لا يمكن قط أن أفترض أن اشمئزازي مما يحبون يمكن أن ينهض سببا لحرمانهم من ملذاتهم، فعندي من العقل ما يحملني على التسامح، ولا أود أن أرى القانون يعاقب على انحطاط الذوق. في عهد الملكة فكتوريا كان ذوق الطبقات الوسطى يتقزز مما كان يبدو ممتعا ومسليا وجميلا لأكثر كبار الشعراء والفنانين والمفكرين والنقاد في العصور الأخرى. وربما ظننت أن آراء أمثال هؤلاء القوم فيما أجمع عليه الرأي أنه يتعلق بالذوق لها شيء من الوزن، وإنها تعتبر حتى عند أولئك القسس والتجار الصغار الذين اكتشفوا بغتة وبدقة عظيمة ما كان دقيقا وما لم يكن، وكل ما أستطيع أن أقول هو أن القسس والتجار كانوا أغلظ ذوقا، ولم يتطرق إليهم أي لون من ألوان الشك في أن أفلاطون وأرستوفان وسافو وكاتلس ولوكسر يشس ودانتي وبوكاشيو ورابليه وشيكسبير وملتن ولافونتين وفلتير وديدرو وبوب وسوفت وفيلدنج كانوا غلاظا عديمي الحس في تلك الأمور التي يستطيعون هم أنفسهم أن يحكموا فيها حكما صائبا، وصغار القسس والتجار - فوق ذلك - يسيطرون على الميدان، ولم يستطع مؤلف حي أن يطبع في إنجلترا شيئا من مثل ما كان يكتبه أفلاطون أو دانتي أو شيكسبير. إن القانون يعترف بانحراف الذوق السليم. إنه يتسامح من غير شك فيما كان يبدو من قبل سوقيا مبتذلا إلى درجة لا يمكن التسامح فيها - فيما كان يبدو كذلك لأولئك العظماء من الرجال الذين تحتاج مؤلفاتهم اليوم منا إلى تبرير. إن القانون يتسامح فيما كان السادة في عهد فكتوريا يقدرون، وما زالت جمهرة الناس تحب. إنه يقبل الأدب والفنون التشكيلية والموسيقى، التي تعرض عرضا حرا في المكتبات والمتاحف وقاعات الموسيقى - وهي إذلال متصل لأي رجل أو امرأة له ذوق سليم. إنه يقبل آراء الصحفيين الشعبيين وعواطف كتاب المسرحية الشعبيين، بل إنه ليقبل ما عندنا من نصب تذكارية عامة، ويستسيغ تمثال «الممرضة كافل». وفي عبارة موجزة: إنه يتسامح ويرعى نظرة إلى الحياة والفن كان ملتن بنكاته البذيئة وشيكسبير بأغانيه التي تدعو إلى الرثاء، يريانها مجلبة للعار على أحط مخلوق يأخذ بها. دعنا لا نشكو؛ فإن كل فرد حتى سرهول كين ومستر إيفور نوفلد، ينبغي أن يسمح له بالتعبير عن نفسه تعبيرا كاملا بقدر المستطاع، ولكن دعنا نأمل أنه إذا امتزج الذوق السليم بالقوة، كان هذا المزج الموفق للقوى أرقى مدنية من أن يحكم بالإحراق على «الطبيب» و«حديقة الورد» و«دع نار البيت موقدة».
إن كل ما نأمل فيه، وكل ما نصبو إليه في الأمور التي تتعلق بالذوق هو التسامح المطلق. دعنا إذن لا نشكو إيثار لورد تشمبرلين
2 «شوسن شو» على «ست شخصيات»، وإنما نشكو منه أن يحول دون استمتاعنا بالكتاب الثاني، ومن العجيب - فيما أحسب - أن يسمح لقاضي المحكمة الجزئية أو عضو البلدية، أو الأسقف - في أمور دقيقة رقيقة كأمور الذوق - أن يفضل في معرفته أروع فنان وأدق ناقد، ولكن من رأيي أنه ليس من المرغوب فيه أن يتحكم العقلاء الحساسون في ملذات الأغبياء والسوقة، كما أنه من المؤسف أن يتحكم الأغبياء والسوقة في ملذات في الحساسين والعقلاء. إن أولئك المتحمسين الذين يدعون للإعجاب الذين تتحرك نفوسهم من حين إلى حين فيثيرون في مجلس النواب أسئلة عن الرقابة على الكتب والمسرحيات، بل ويشكون حينما يدركون أن رجال السياسة لا يأبهون مثقال ذرة لشئون الثقافة - هؤلاء يتجهون في عملهم وجهة خاطئة. يجب عليهم ألا يصروا على تفوقهم الجمالي فيما يحبون، بل أن يصروا على مبدأ التسامح العام. إنهم يبدون نوعا من الغرور له شره الوبيل في هذا البلد وفي أمريكا خاصة، وإن أرادوا أن يتحاشوه، وجب عليهم أن يحاولوا - ولو مرة - أن يتصفوا بالمهارة كما يتصفون بالخير، والواقع أن الحكم في أمر من أمور الذوق يتطلب درجة من الإحساس أعلى من تلك التي يتطلبها الناخب العادي، ولكنا إذا كررنا هذا القول للناخب العادي ما بعثنا فيه قط إحساسا بالسرور. ومن الحق الذي لا مرية فيه أن القوة العقلية والنزاهة الضروريتان للحكم على أي أمر من الأمور بما يستحق، تبلغان حدا يجعل الحكم عامة أبعد من مناله. بيد أنه يميل إلى الحكم، ومن أجل هذا تراه يقبل، بل يحتم المعايير الآلية، وهذه المعايير ليست - بطبيعة الحال - معايير للذوق؛ لأن المعايير الآلية لا يمكن أن تنطبق على الذوق؛ لأن الذوق أمر يتعلق بالاستجابة والإحساس الذاتي. ولكنها تؤدي غرضا لأولئك الذين لم يعرفوا قط استجابة ذاتية من الدرجة الأولى، بل ولم يكونوا حكما على أمر من أمور الذوق. كما أن المعيار الآلي الحسن في يد رجل ثابت في غبائه وانعدام حسه له هذه الميزة الكبرى، إنه يمكن أن يطبق على كل أمر من الأمور. إن مطابقة الحال عندئذ لا يكون لها وجود. وما إن يألف المرء الحكم على الخوخ بوزنه يجد من الميسور والممتع له أن يتجه إلى الكتب والصور. إن الرجل العادي يحب المعيار المجهز الذي يكون مستعدا دائما ويمكن تطبيقه على أي أمر من الأمور. وكما أنه لا يستطيع أن يعرف إذا كان العمل الفني جميلا أو غير جميل، ولكنه يستطيع أن يدرك الدليل على الحكم بأنه ليس من صنع رفائيل، فكذلك لا يستطيع أن يعرف إذا كان الشيء مبتذلا أو غير مبتذل - لأن الابتذال أمر من أمور الحس والتعبير - ولكنه يستطيع أن يعرف إن كانت بضع كلمات بعينها قد سبق ذكرها. إن لديه معياره، ويستطيع أن يطبقه صباحا ومساء في عربة السكة الحديدية، سواء كانت من الدرجة الثالثة أو من الدرجة الأولى. إن تكلف الحشمة تذوق آلي كما أن التظاهر بالتقوى تدين آلي، وكما أن الشخص المتدين حقا لا يضطرب للنجاسة، فكذلك الرجل الذواقة حقا لا يكترث للفحش أو البذاءة، ولكنك لا تستطيع أن تقنع الناخبين بهذه الحجج.
إن طريق العقل ليس ممهدا دائما، إلا إن من يتابعه مخلصا له أن يثق في الفوز بنوع من أنواع الجزاء الطيب. إنه يتخلص من الخوف من الاستمتاع بما في الحياة من طيب الأشياء - ذلك الخوف الذي ليس له من العقل سند. ثقوا أن العقل يقضي على تلك الخرافات التي تشغل أذهان البرابرة، وتفسد عليهم لذة القنص، وتكبلهم في قيود من النواهي. إن المتعة الخالصة بكل ما تقدمه الحياة لنا ميزة لا يتمتع بها إلا من كملت مدنيته. إن كمال المتعة يتطلب من المرء أن يطهر عقيدته من المحرمات، ويجب أن يتخلص من الاحتشام المتكلف، والخرافة، والخجل الكاذب، والإحساس بالذنب، ولا يحمله على ذلك إلا العقل وحده. ينبغي ألا يستند ناموسه الخلقي إلا على العماد الثاني من عمد المدنية - وأعني به الإحساس بالقيم. إن إحساسه بالقيم يرشده إلى أن الملذات التي تهبها إياه الحواس، أو يهبها إياه الحس الممتزج بالعاطفة، أو الحس الممتزج بالتعقل، ملذات ليست سيئة في حد ذاتها، بل إن إحساسه بالقيم ليرشده إلى أن اللذة - في حد ذاتها - طيبة دائما، وعلى العقل المتمدن ألا يسمح لهذه الملذات قط أن تصبح وسيلة إلى الشر وذلك بوقوفها عقبة في سبيل الخير أو بجعلها هذا الخير مستحيلا، ولنضرب لذلك مثلا: إن الشخص المتمدن حقا لا يرى الشراب خطأ، ولكن المتمدنين جميعا يحتقرون من يدمن على الشراب، فالمدمن سرعان ما يجعل نفسه عاجزا عن بلوغ حالات العقل الطبية، وإنسانا مزعجا للرأي العام ينبغي نبذه، ولكن حفلة للعشاء يسودها المرح، أمر من الأمور التي لا يتحاشاها الرجل المتمدن ما دام في صحة جيدة. ألم يعتقد أفلاطون المتقشف نفسه أن من واجب المواطن أن يسكر في حفل ديونيسيا؟
3
الرجل المتمدن لا يخشى الملذات حينما يسمع أنها تنعت نعوتا سيئة - فيقال عنها فاسدة، وشريرة، ومخجلة. إن أمثال هذه الصفات لا تعني بصفة عامة أكثر من أن معظم الناس يخشون جوانب الطبيعة الإنسانية التي لم تكتشف بعد أو التي أخطأنا في كشفها، وما دامت اللذة ليست سيئة في حد ذاتها؛ فليس هناك ما يدعو إلى الخجل من أي لذة من اللذات، وإن كانت هناك لذات يرى الرجل المتمدن ألا يسترسل فيها، فليس مرد ذلك إلى أنها سيئة، وإنما مرده أن نتائجها سيئة، ومن المؤكد أنه من المخجل أن تسترق الشهوة المرء إلى حد ينزل العقل عن عرشه فيفقد المرء القدرة على وزن النتائج. من المخجل أن يسمح المرء لنفسه بالإدمان في الملذات الحسية الساذجة حتى يشل قدرته على الاستمتاع بملذات أدق وملذات أشد إثارة للحواس. الرجل المتمدن يخجل إذا لم يكن معدا للاستمتاع بملذات المتمدنين، ويخجل من نقص قدرته على التفكير الصافي والشعور الرقيق يخجله أن يشبع عاطفة لا يمكن إشباعها دون أن ينتهك إحساسه بالقيم ودون أن ينزل عقله عن عرشه، ولا يخجله شيء غير هذا. إن المتوحشين يسمونه رجلا بغير حياء.
Halaman tidak diketahui