ومن هذا الإحساس بالقيم، ومن التطلع العقلي عند الطبقة الراقية، نجمت نتيجة حببت الشعوب المتمدنة دائما في القرن الثامن عشر. ذلك أن هؤلاء السيدات والسادة المهذبين لم يخضعوا لتهديد أو إملال. لم يكونوا من ذلك النوع الذي يحتمل الأساليب التي يسلكها خفاف العقول أو الثرثارون المتشدقون بالعلم، وأصروا على أن يعبر أساتذتهم عن أنفسهم في لغة واضحة شائقة - وكانت كاترين العظمى تغرم بتلقيب نفسها بتلميذة فلتير - وكان الناس يتوقعون أن ينقاد العلم للجمال، أو على الأقل للذوق السائد. كان للقرن الثامن عشر مقاييس يود أن تنال حقها من التقدير، ولم تكن هذه المقاييس قاصرة على كتابة النثر، وإنما كانت للقرن الثامن عشر مقاييس في الحياة. وفي الحق أن مما يميز العصور المتمدنة أنها تتمسك بمقاييس لا ينبغي أن تهبط عن مستواها الأمور، ويرجع ذلك إلى وجود الإحساس بالقيم.
2
ألم تستمع قط إلى رجل فكه عظيم، وقد امتلأت معدته بعشاء باهظ التكاليف في مطعم يسترعي النظر بسوء تأثيثه وشدة إضاءته وقد أثمله النبيذ (الذي اشتهر باسم برييه جويه في عام 1911م)، وحديث تافه طويل لا يقرع سمعك إلا بعض كلماته وقد أغرقته موسيقى أعلى منه في ضوضائها، ألم تستمع إلى مثل هذا الرجل يقول وقد سمح للمناول المشعث أن يختار له أطول سيجار «هذه تناسبني يا بني، وإني ليرضيني دائما أغلى السجائر»؟ إن مثل هذا يحدث حينما يفقد الناس مقاييسهم، وليس في لندن - كذلك - سوى مطعم أو مطعمين العشاء فيهما متعة غير مشوبة. إن الرجل الذي يحمل ميزان المقاييس لا يرضيه دائما أحسن الموجود. إن هذا الرجل يعرف تماما ما يريد ويصر على الحصول عليه. والظاهر أن الرجل الإنجليزي الحديث ليست لديه معايير، وكل ما يستطيع عمله أن يتوجه إلى أحسن المحلات مظهرا ليشتري منه أغلى ما فيه. أما منذ خمسين عاما فقد كانت ربة البيت الرقيقة تفخر بأنها تعرف المكان الصحيح لكل شيء. ففي شارع خلفي رجل صغير يستورد صنف البن الذي تحبه، وهناك آخر يخلط الشاي خلطا هو أكمل ما يكون، وثالث يعرف سر لحم الخنزير المدخن. كل ذلك اختفى اليوم. ولا تفعل ربة البيت سوى أن تذهب إلى المخازن. ولم يعد لغز «مارش هير» لغزا غامضا. ولم نعد نصر على الحصول على ما نحب، وإنما نحن نحب ما نحصل عليه. وربما كان من توافه الأمور أنك قد تتناول عشاءك في أحد المطاعم الستة الأنيقة في لندن، وأن تدفع جنيهين ثمنا لوجبتك، وأنت تعلم عن يقين أن وكيلا من وكلاء التجار المتجولين الفرنسيين نشأ على المعايير القديمة لما ألف في الريف، ربما أرسل في طلب الطاهي ووجه إليه قارص الكلام. ولكن فكر في الدوافع. إنها لا ترجع إلى أن أغلى المطاعم الإنجليزية تقصر في استخدام أعلى الطهاة الفرنسيين أجورا . إنهم يستخدمونهم ولكنهم سرعان ما يهبطون عن المستوى لأن المطعم لا يتردد عليه أحد ممن يرفعهم دائما إلى هذا المستوى. إن الزبائن ليست لهم معايير. تقول هذا أمر تافه، وأقول ذلك ما يؤدى إلى الهمجية.
إني حينما أقول: إن المدنية تحتم قيام المقاييس لا أقع في ذلك الخطأ القديم الذي يفرض أن المدنية شيء يفرض على الفرد التشابه البغيض. كان النقاد والعلماء لعهد فكتوريا من الخشونة وانعدام الحس بحيث لا يقدرون راسين وبوسان، ويعللون انحطاط شأن هذين الفنانين عن تنيسون وتيرنر بأنهما من ثمرات المبالغة في المدنية التي جعلت التعبير الشخصي الحر أمرا مستحيلا وعارضت معارضة مطلقة في التجريب والتطوير. ويزعم الزاعمون أن العصور ذات المدنية الرفيعة تحتم التشابه المطلق، فتصبح جافة جامدة، والواقع أن الفنانين كانوا أحرارا في تجاربهم في العصور المتمدنة كما كانوا في غيرها من العصور. وتستطيع أن تجد الأمثلة أنى شئت، ففي أثينا فيما يزيد قليلا عن مائة عام حدث انقلاب من الأسلوب العتيق في النحت إلى الأسلوب الفديائي، ومن الفديائي إلى البراكسيتيلي. وفي الأدب من إيسكلس إلى سوفوكليز، ومن سوفوكليز إلى الكوميديا الجديدة. وفي إيطاليا شهد مطلع القرن الخامس عشر ثورة في التصوير - نهاية حركة جيرتو واكتشافات ماساشيو وجاستانيو ومانتنيا، في حين أن رفائيل وميشيل أنجلو كانا قد أدخلا تعديلا على تقاليد الفن وأسسا مدرسة جديدة قبل نهب روما، وكل طالب للأدب الفرنسي يعلم أن المعجبين بكورني قد أدهشهم، بل أغضبهم، أسلوب راسين، كما يعلم أن تطور النثر من القرن السابع عشر إلى القرن الثامن عشر أمر لا يرضي المحاضر (لغير طلاب الجامعة) الذي يستعرض تاريخ الأدب أن يجهله ضحاياه الطلاب. كما أن ظهور مدرسة عاطفية طبيعية في النصف الثاني من القرن الثامن عشر موضوع يستفيض فيه عادة - بدافع من الغرور الوطني فيما أظن - أولئك النقاد أنفسهم الذين يعيبون على ذلك العصر ما فيه من تشابه ثابت. أنهم ربما لم يكونوا على علم أن جلك (
Gluck ) وأتباعه كانوا في نفس الوقت يطورون التقاليد الموسيقية تطويرا بالغا مثلما فعل فاجنر بعد ذلك بمائة عام.
إن العصور المتمدنة تميل من غير شك إلى احترام التقاليد في الفن وفي غيره من الأمور. وهناك ما ينذر بالخطر من أن يتدهور احترام التقاليد إلى عبادة العرف، وهو لا يعدو أن يكون الحيل والعادات لماض قريب توحدت لتعميم استعمالها - مخالفة في ذلك التقاليد، وهي التعبير عن التجارب المتجمعة. وهناك من ناحية أخرى في العصور المتمدنة جمهور حساس مثقف، يعطف على الفنان، ويميل إلى أن يهيئ له أن يعرف على خير وجه خير الأمور بالنسبة إليه. ومثل هذا الجمهور لا يخدع في سهولة فيظن خطأ أن الصيغة المقبولة هي التقليد العظيم. إن ماساشيو وأتباعه، وكذلك مدرسة الكتاب الثائرين في مطلع القرن الثامن عشر، والرومانتيكيين الأوائل في أخريات هذا القرن، إن هؤلاء لم يضطروا إلى الاشتباك في معارك حامية كالتي نشبت حول أسماء هوجو وفاجنر وروزتي وما لرمي وسيزان؛ ذلك لأن الجمهور في العصور المتمدنة يتفوق في حسه كثيرا عن الجمهور في القرن التاسع عشر؛ لأن الظروف كانت أشد مواتاة وأقل ضيقا، وقلما كان الفنان يندفع في احتجاج عالي الضجيج أو مضيع للوقت والجهد. إن الفنان الحق لا يكون بطبعه محتجا، ولا يلعب هذا الدور إلا بضغط من حقد معاصريه. والاحتجاج آفة الفن؛ لأن من يشرع فيه يتعرض لخطر الوقوع في الهاوية. المدنية تميل إلى أن تجعل الاحتجاج أمرا لا ضرورة منه.
والتشابه كما هو في العصور ذات المدنية الرفيعة ربما كانت له مثالبه التي لا بد لي أن أتعرض لها بعد قليل، ولكنه ليس تهلكة للفن، وهو من ناحية - ولا ريب - نتيجة لرأي عام متنور له خطره ولا يقبل أن يستخف به. وهو ينتج - إلى حد كبير - من أن الفنانين بعدما وجدوا أنفسهم في عالم متزن قد تخلصوا من ضرورة القيام باحتجاجات يتظاهرون بها - وبين الفنان والجمهور في المجتمع ذي الحضارة الرفيعة مجال مشترك لا يجد الفنان لديه مبررا لأن يرتاب في خيانته أو لأن يحتقره لاحتمال عقمه، بل على العكس من ذلك نراه يفترض العطف وحسن الإدراك. ولأن الجمهور المتمدن أقل من غيره احتمالا لأن يحسب بقايا حركة تحتضر تقليدا من التقاليد، نراه لا يحس بالخوف الشديد الذي لا يحتمل من أن يغل العرف يديه. ففي العصر ذي الحضارة الرفيعة لا يعادي الفنان التقاليد ولا يعدم الثقة فيها، وإنما يتناول منها في حرية كل ما يستطيع أن تقدمه. ومن أسباب التشابه الظاهرة في العصور ذات المدنية الرفيعة خصيصة أخرى من خصائص المجتمع ذي الحضارة الرفيعة، وهي خصيصة تنشأ من ناحية عن الإحساس بالقيم - ومن ناحية أخرى، تنشأ عن التعقل، وترتبط ارتباطا وثيقا بإصرار المدنية على المعايير؛ وتلك هي أن المجتمعات ذات المدنية الرفيعة مجتمعات مهذبة.
إن آداب السلوك نعمة لا يغض من قيمتها قوم عندهم إحساس بالقيم. غير أن آداب السلوك تترتب كذلك على التعقل، وهو الصفة الأولية الأخرى من صفات المدنية؛ لأن التعقل يؤدي إلى تفتح الذهن، وإلى الرغبة في الاستماع إلى ما يقوله الآخرون، وإلى النفور من الوسائل الدكتاتورية. وحيث إني الآن أحاول أن أصف العوامل التي تتفرع من الإحساس بالقيم، فلن أعتدي على الموضوع الذي أعتزم أن أتعرض له في فصل آخر. وإن شئتم تركنا التعقل وما يتولد عنه وشأنه. ومن الواضح أن الإحساس بالقيم الذي يسعى لأن يستخلص من الحياة خير ما تعطيه - هذا وحده يكفل أدب المعاشرة أو التهذيب - والخير هنا ما لا يتخلى عنه الفرد لما هو دونه.
3
وكذلك تجد أن من يملك الإحساس بالقيم لا يقصر في تقدير التفوق الجوهري المجرد الذي تتميز به المجاملة في السلوك على الوقاحة السليطة. أما كيف يؤثر هذا الذوق المتمدن الذي يؤثر دماثة الأخلاق في الفنانين الناشئين المبتكرين المبتدعين فيتوقف إلى حد ما على أمزجتهم. غير أن هنالك دائما طريقتين لإحداث أي تغيير، إحداهما فطنة لبقة، والأخرى سافلة صخابة. والمتمدنون يؤثرون الطريقة الأولى.
Halaman tidak diketahui