ومن هنا نفهم أن الكميت كان يدافع عن المثل الأعلى، كان يريد أن تقوم الدولة على أساس الدين؛ أي على أساس النزاهة المطلقة التي لا يشوبها جور ولا رياء ولا خداع، وهذا المثل الأعلى هو الذي هزم الهاشميين ونصر الأمويين؛ ذلك بأنه لا يكفي أن تقوم النزاهة من جانب واحد هو جانب الحكام، وإنما يجب لنصرة المثل الأعلى أن تغمر النزاهة أيضا صدور المحكومين، والدنيا كما عرفناها وعرفها الناس فيها الرشد والغي، والقناعة والطمع، والبر والعقوق. وقيام الملك لا يغني فيه زهد علي، كما يغني دهاء معاوية؛ ولهذا رأينا الحكماء يتمثلون حكومة العدل المطلق حكومة وهمية، فيصورونها في كتبهم على أنها أماني وأحلام، ويا بعد ما بين الحقيقة والخيال!
فمن جوانب الضعف عند الكميت ألا يفهم أن الأخلاق دولة أعز من دولة السلطان، وأنه لا يليق بصاحب الخلق المتين أن يبكي ما ضاع منه كلما رأى أهل الدنيا يمرحون في ظلال الترف والنعيم.
ولكن هذا الضعف هو عين القوة، فالرجل يرى المثل الأعلى في الجمع بين السيطرة والزهد، ولو صح لنا أن نلومه على ذلك لجاز أن نتصور أن صيحات المصلحين لغو وفضول.
وأهل الدنيا في الأغلب يرون كلمات الحكماء نوعا من الثرثرة، ولكن العواقب تحكم دائما بأن الحق كان من نصيب أولئك المستضعفين، على أن أمثال بني أمية لم يستتب لهم الملك لأنهم عرفوا كيف يبثون الرجاء والخوف، وإنما تماسك الناس بفضل ما عرفوا واصطنعوا من الخلق والدين، ولو ترك المسيطرون وجها لوجه أمام الجماهير التي لا يميلها غير الرجاء، ولا يرهبها غير الخوف، لانهزموا أقبح انهزام، فإن الشعب الذي لا يتماسك بفضل ما ورث من الأخلاق لا يمسكه خوف ولا رجاء.
وخلاصة هذه الفكرة أن الكميت لم يفهم كيف يقوم الملك، ولو قد فهم لنصح الهاشميين باصطناع ما اصطنع الأمويون من التخلق بخلق المعاش، وللمعاش أخلاق يحسنها من يعرفون كيف تجمع الثروة، وكيف يخلق الأنصار والأعوان، كما فعل معاوية الذي لم يقض سنيه عبثا يوم ولاه عمر بن الخطاب على الأقطار الشامية، بل بذل ما يملك من جهد ودهاء في خلق الأنصار والأعوان، لتكون الشام ذخيرة حربية حين يبدو في أفق السياسة ما يدعو إلى الزحف للأخذ بناصية الملك.
ولكن هذه الغفلة من جانب الكميت هي أساس القوة الروحية، فلو أنه شك لحظة في صحة ما عليه الهاشميون من الأخلاق لما نافح عنهم بتلك القصائد الطوال، ولو تطرق إلى ذهنه أن الملك يحتاج إلى المداهنة في معاملة الناس لما وصل إلى تلك العظمة النفسية التي تطالعنا بوادرها كلما نظرنا في الهاشميات.
والهاشميون أنفسهم لو حاولوا التخلق بأخلاق الأمويين لانهزموا في ميدان الدنيا وميدان الدين، وقوة الرجل أن يقف حيث وقفته الفطرة، فيقسو ويرق وفقا لما في فطرته من عناصر العنف واللين. (2)
أقول هذا لأبين أثر السذاجة في أحكام هذا الشاعر من الوجهة النفسية، فهو حين يمدح الهاشميين بكرم الأخلاق يقف عند الشمائل الصريحة التي يتحلى بها أهل الشهامة والنبل، فيقول:
بل هواي الذي أجن وأبدي
لبني هاشم فروع الأنام
Halaman tidak diketahui