Macqul dan La Macqul dalam Warisan Pemikiran Kita
المعقول واللامعقول في تراثنا الفكري
Genre-genre
أأقول إنه خلق عربي متأصل فينا - لا فرق بين أقدمين ومحدثين - أن يتحكم بعضنا في رقاب بعض كلما وجد إلى ذلك طريقا؟ إن للسلطان عندنا شهوة أين منها كل ما في الدنيا من صنوف النعيم، مادية كانت أو معنوية تلك الصنوف؟! إننا نحب الجبروت حبا لا يعلو عليه حب لشيء آخر، ومع الجبروت إذا ظفرنا به يقل فيا العدل ويكثر الظلم، حتى ظن المتنبي قديما أن هذا الظلم ليس مقصورا علينا، بل هو من شيم النفوس، «فإن تجد ذا عفة فلعلة لا يظلم»، فليس السؤال عندنا هو لماذا ظلم من ظلم؟ لأن ظلم الظالم هو القاعدة السارية التي تعم الجميع، ولكن السؤال عندنا هو: كيف حدث أن توافرت العفة لفلان وكان في مستطاعه أن يظلم ولا يعف؟ إننا نسأل هنا عن «العلة» لأنه هو الوضع الشاذ الذي يتطلب التعليل؛ يقول الجاحظ: «... وأين تقع لذة درك الحواس الذي هو ملاقاة المطعم والمشرب وملاقاة الصوت المطرب، واللون المونق، والملمسة اللينة، من السرور بنفاذ الأمر والنهي، وبجواز التوقيع، وبما يوجب الخاتم من الطاعة ويلزم من الحجة» (الحيوان، ج1، ص205). وأرجو أن يلاحظ القارئ معي الجملة الأخيرة من هذه العبارة؛ جملة «... يلزم من الحجة»! إن «الحجة» تكون ملزمة إذا وقعها صاحب الأمر والنهي فينا، وختم بخاتمه عليها، وليذهب إلى جهنم عقل يقيس إلزام الحجة بمقاييس منطقه، ليرى أين تكون المقدمات العقلية التي تلزم بالنتيجة!
أراد الجاحظ لكل فرد من الناس كرامة موفورة كاملة، فليتفاوت الناس في كل شيء؛ ليتفاوتوا في ارتفاع المناصب وانخفاضها، في كثرة المال وقلته، لكن المساواة بينهم في الكرامة الإنسانية أمر ليس عنه محيص؛ يقول في ذلك هذه العبارة الآتية التي تريد منا وقفة المتأمل المعتبر: «فسبحان من ... جعل في الجميع تمام المصلحة، وباجتماعها تتم النعمة، وفي بطلان واحد منها بطلان الجميع ... فإن الجميع إنما هو واحد ضم إلى واحد، وواحد ضم إليهما، ولأن الكل أبعاض، ولأن كل جثة فمن أجزاء، فإذا جوزت رفع واحد - والآخر مثله في الوزن، وله مثل علته وحظه ونصيبه - فقد جوزت رفع الجميع، لأنه ليس الأول بأحق من الثاني ... ألا ترى أن الجبل ليس بأدل على الله تعالى من الحصاة، وليس الطاووس المستحسن بأدل على الله تعالى من الخنزير المستقبح؟ والنار والثلج - وإن اختلفا في جهة البرودة والسخونة - فإنهما لم يختلفا في جهة البرهان والدلالة ... فلا تذهب إلى ما تريك العين، واذهب إلى ما يريك العقل» (الحيوان، ج1، ص206-207).
وحسبنا هذا القدر القليل من أمثلة نسوقها للمحات الفكرية التي يرسلها هذا الرجل إرسالا لا تحس فيه إعناتا لعقله، فكأنه يلهو برمال الشاطئ يكومها ويهدمها بغير عناء، وليت دارسا يجمع لنا أفكار الجاحظ ويرتبها في شيء من التصنيف المنظم لتسهل رؤيتها واستخدامها؛ إذ لو تركناها مبعثرة في ثنايا الصحف - فلا هي الموضوع الرئيسي للكتاب فنهتدي إليها، ولا هي واردة في مواضعها على نسق معلوم - لضاع علينا كنز نفيس.
ولننقل من كتابته عن الحيوان نموذجا واحدا، وليكن مختارا نقبسه مما قاله الجاحظ في جزأيه الأول والثاني من كتاب «الحيوان» عن الكلب والديك! يقول شارل بلا في كتابه عن الجاحظ: إنه قد قصد بحديثه الطويل المستفيض عن الموازنة بين الكلب والديك رمزا يشير به إلى رجلين معينين من رجال عصره، وإني لأرجح هذا الرأي ترجيحا شديدا، على أية حال فهاك بضعة أسطر مما قاله في الكلب وما قاله في الديك، مع ملاحظة أنه جعل المناظرة وكأنها تدور بين شيخين من شيوخ المعتزلة؛ أحدهما يدافع عن الكلب، والآخر يدافع عن الديك، مما يرجح لنا أن الكلام كله رمز لما لست أعلمه من شئون عصره، وسألت بعض رجال التخصص في هذا الميدان لعلي أهتدي وما اهتديت.
هاك نبذة قصيرة مما يقوله في الكلب:
فيه خليط من طباع السباع كأكل اللحوم، ومن طبائع البهائم كإلفه للإنسان، غير أنه إذا سمن فقد يهاجم صاحبه، وفي المثل: سمن كلبك يأكلك، وهو «حارس محترس منه، ومؤنس شديد الإيحاش من نفسه، وأليف كثير الخيانة على إلفه، وإنما اقتنوه على أن ينذرهم بموضع السارق، وهو أسرق من كل سارق ... فهو سراق، ... وهو نباش، وآكل لحوم الناس، ألا إنه يجمع سرقة الليل مع سرقة النهار، ثم لا تجده أبدا يمشي في خزانة أو مطبخ أو عرصة دار، أو في طريق أو في براري، أو في ظهر جبل، أو في بطن واد، إلا وخطمه في الأرض يتشمم ويستروح، وإن كانت الأرض بيضاء حصاء ... حرصا وجشعا، وشرها وطمعا، نعم، حتى لا تجده أيضا يرى كلبا إلا اشتم استه، ولا يتشمم غيرها منه، ولا تراه يرمى بحجر أيضا أبدا إلا رجع إليه فعض عليه؛ لأنه لما كان لا يكاد يأكل إلا شيئا رموا به إليه، صار ينسى - لفرط شرهه وغلبة الجشع على طبعه - أن الرامي إنما أراد عقره أو قتله، فيظن لذلك أنه إنما أراد إطعامه والإحسان إليه ...» (الحيوان، ج1، ص193). «والكلب على ما فيه يعرف صاحبه، وهو والسنور يعرفان أسماءهما، ويألفان موضعهما، وإن طردا رجعا، وإن أجيعا صبرا، وإن أهينا احتملا» (ص196).
وفي العبارة الموجزة الآتية نقدم نموذجا لما يقول عن الديك، وخلاصة القول فيه (انظر الحيوان، ج1 ، ص193-196): إنه ليس مما يطرب بصوته، ولا مما يمتع الأبصار حسنه، ولا هو مما يطير، فهو طائر لا يطير، وبهيمة لا يصيد، ولا هو مما يكون صيدا فيمتع من هذه الجهة، والديك لا يألف منزله، ولا يحن إلى ولده، وهو أبله لا يعرف أهل داره، ومبهوت لا يثبت وجه صاحبه ...
27
أما بعد: فماذا نأخذ وماذا ندع من هذه الموسوعة الضخمة التي هي كتاب «الحيوان» الذي يقع في سبعة مجلدات (في إحدى طبعاته) امتلأت صفحاتها بما يقطع بما كان لهذا الرجل من اطلاع واسع، وتنوع في الاهتمام؛ كأنما كان كل معرفة عنده واجبة التحصيل جديرة بالحفظ، وبرغم أن معظم حديثه في هذا السفر الموسوعي هو - بالطبع - عن صنوف الحيوان، إلا أنه قد تخللته من صنوف المعارف الأخرى ما يمكن أن يضم بعضه إلى بعض، فيكون صورة فكرية تشف عن وجهة نظره، ولعلك لمست من النماذج القليلة التي قدمناها لتمثل كتابته عن الحيوان، أنه يكتب عنه وكأنه يكتب عن جماعات بشرية؛ وذلك لأنه يتناول موضوعه تناول أديب أكثر مما يتناوله تناول عالم.
كان الجاحظ قارئا ممتازا كما كان كاتبا ممتازا، فحياته عاشها في عالم الكتب بأدق معنى لهذه العبارة، لا يكاد يبعد عن الكتاب قارئا إلا لينشر أوراقه كاتبا، وكان من حسن حظه أن قامت حركة الترجمة عن الثقافات الأخرى على النحو الذي أسلفناه، برغم أنه قد ذكر لنا عن حركة الترجمة هذه ما يدل على ريبته في تمام نفعها، كما أوردنا لك في الصفحات السابقة؛ ففي كتابه الحيوان - وغيره - ترد أسماء لأعلام الفكر الأجنبي من أمثال أرسطو وأفلاطون وأبقراط وبطليموس وجالينوس، بل إن مادة كتابه الخاصة بالحيوان نفسه قد تجد من الدارسين من يظن أنها مأخوذة في قدر كبير منها عن أرسطو.
Halaman tidak diketahui