Macqul dan La Macqul dalam Warisan Pemikiran Kita
المعقول واللامعقول في تراثنا الفكري
Genre-genre
إن كاتب هذه الصفحات ليقدر الجاحظ تقديرا لا يكاد يكون له حدود، فإذا وجده يقول قولا كهذا في «النظام» كان خليقا به أن يأخذ أهبته، ويشحذ قريحته؛ ليلتقي ب«النظام» وهو في أعلى قدراته، فماذا كانت أفكار النظام الأساسية، بناء على ما ذكره الشهرستاني في «الملل والنحل»؟ إنه يذكر لنا ثلاثة عشر موضوعا، تميز بها «النظام»، فلنستمع إلى هذا المفكر، الذي لا يجود بمثله الزمان إلا مرة واحدة كل ألف عام في تقدير الجاحظ، لنستمع إليه وهو يعرض موضوعاته تلك بما يرى فيها من رأي، وقد استبحنا لأنفسنا أن نتقمصه لننوب عنه في العرض على نحو ما صنعنا مع «العلاف».
كانت مسألته الأولى عن القدر - أي حرية الإرادة الإنسانية في الاختيار - فذهب إلى ما ذهب إليه المعتزلة جميعا من أن الإنسان مريد لما يفعل، ومسئول عما يفعل، لا فرق في ذلك بين خير يأتيه أو شر يقترفه، ولو أخذنا برأي غير هذا الرأي لتعذر علينا أن نفهم كيف يكون الإنسان مسئولا، وعلى أي أساس عادل يثاب على خير يفعله ويعاقب على شر يجني به على نفسه وعلى الناس؟ ولكن «النظام» يضيف إلى هذا القول المشترك بين سائر المعتزلة، بعدا يتميز به، وهو أن الله لا يجوز وصفه بالقدرة على فعل الشر والمعصية، وليست الشرور والمعاصي مقدورة له بأية صورة من الصور، وهذا مذهب نقبله من «النظام» قبولا مطلقا وبغير تحفظ؛ لأنه مذهب إذا حوكم أمام العقل كان مقبولا، وإذا حوكم بالإحساس العام كان مقبولا كذلك، وإننا لنعجب من قوم عارضوه - وكانوا نفرا كثيرا - بحجة أن هذا يحد من قدرة الله المطلقة، كأنما «القدرة» يمكن فهمها فهما صحيحا إذا نحن عزلناها عن طبيعة الذات القادرة، وإلا فهل تشع الشمس ظلمة؟ هل يخرج الماء نارا؟! إننا إذ نصف الله بالقدرة المطلقة، فإنما نتصورها قدرة فيما هو به إله؛ إننا إذ نقول عن فنان: إنه قادر على إبداع فني من هذا النوع أو ذاك، لا يحق لنا أن نقول عنه إنه كذلك قادر على تحطيم الأثر الفني بعد إبداعه! نعم إنه يستطيع ذلك، لكنه يستطيعه لا من حيث هو فنان، وكذلك قل إن الله تعالى قادر على خلق ما يتفق مع كونه إلها، وأما أنه قادر كذلك على فعل الشر وإتيان المعاصي فقول يتضمن أنه بمثل هذا الفعل يبطل أن يكون إلها، وفي ذلك من التناقض ما فيه، ثم ماذا يفيده القائلون بقول كهذا؟ ما الذي يستقيم به في حياتهم مهما تنوعت تلك الحياة من عبادة إلى صناعة وتجارة وزراعة؟ أم هي لجاجة عمياء تضر ولا تفيد؟
كان «النظام» على حق، وكان معارضوه على باطل، حين قال هو: إن الله قادر على فعل ما يعلم أن فيه صلاحا لعباده، وليس هو بقادر - من حيث هو إله - على أن يفعل بعباده في الدنيا ما ليس في صالحهم وصلاحهم، وحين قال المعارضون بأن ذلك يجعل الله مجبرا على ما يفعله؛ إذ القادر - عندهم - هو من يستطيع الفعل والترك، أيا كان ذلك الفعل، وإننا اليوم لنحيي «النظام» حين رد على معارضيه بما قد يرد به مفكر يعيش في عصرنا؛ إذ قال ما معناه: ما الفرق بين أن أقول: إن الله غير قادر على فعل الشر ، وبين أن أقول: إنه قادر على ذلك لكنه لا يفعله؟ أليس هو في كلتا الحالتين لا يفعله؟ وهو رد يأخذ فيه «النظام» معاني العبارات بما تتضمنه من الجوانب العملية وحدها، وما لا يستحيل أن يتحول إلى عمل فهو - في الحقيقة - بغير معنى.
وننتقل مع «النظام» إلى مسألته الثانية، وهي خاصة بالإرادة الإلهية، فنراه يقول فيها قولا شبيها بما قلناه عند تعليقنا على رأي «العلاف»، إذ قال ما معناه: إن الله لا يوصف بالإرادة إلا وهو يخلق ما يخلقه ويفعل ما يفعله، أما أن نتصور إرادته قائمة بغض النظر عن كل مجال للخلق والفعل، فأمر يتعذر عليه وعلينا، ومهما يكن من أمر فهذا وحده هو القول الذي قد يفيد ويهدي؛ إذ أين وكيف تكون الهداية لنا في مواقف حياتنا إذا صدرنا عن عقيدة بأن إرادة الله صفة تصف ذاته دون ما يوجب استخدامها في خلق الأشياء وتسييرها؟
وأما المسألة الثالثة عند «النظام» ففيها لفتة تكاد - لو أحسنا فهمها واستخدامها - أن تضعه معنا في عصرنا، فمن أهم ما يميز عصرنا بغير نزاع وجهة النظر الآخذة بمبدأ الحركة والتغير بدل النظرة التي سبقت ذلك من أن الأصل في حقيقة الكون سكون إلى أن يحركه ما يحركه، إننا إذا وضعنا منظار عصرنا هذا على أعيننا لترى، لما فرقنا بين «عقل» و«جسم» من حيث إن كليهما قوامه «حركة» وفعل ونشاط، لقد كان يمكن للسابقين أن يتصوروا العقل كائنا متأملا في سكون، وأما البدن فهو وحده الذي يلزم أن يضطرب مع سائر الأشياء الجوامد في تيارات الحركة الدافقة خلال الكون، أما نحن اليوم فلا نعلم كيف تكون «فكرة» إلا أن تكون ضربا من الفاعلية يؤديها هذا العضو أو ذاك من أعضاء البدن.
وشيء كهذا يقوله «النظام» - لو كنت قد أحسنت فهم ما يريده - حين يقول ما معناه إنه ليست الأفعال البدنية وحدها هي التي تتألف من «حركة» بل كذلك «العلم» و«الإرادة» - وكان يمكن أن يعمم القول ليشمل كل جوانب الإنسان في حياته الفكرية والوجدانية - ف «العلم» حركة تنتقل بها النفس من حالة إلى حالة، وكذلك قل في الإرادة، وإن هذا القول ليصدق حتى إذا فهمنا «الحركة» لا على أنها نقلة من مكان إلى مكان، بل فهمناها على أنها تغير من حالة إلى حالة أخرى.
وننتقل مع «النظام» إلى مسألته الرابعة، وكأنما أراد بها أن يضع تعريفا يحدد الإنسان، فكان هذا التعريف عنده هو أن الإنسان إنسان بنفسه وروحه، وأما البدن فهو آلة التنفيذ، كما أنه هو وسيلة التشكل، وما النفس أو الروح في هذا السياق إلا جملة الاستعدادات التي يتهيأ بها للإنسان أن يفعل ما يفعله، فهي ليست هذه الجزئية الخاصة أو تلك الجزئية الخاصة من جزئيات العلوم، أو من جزئيات السلوك، أو من حالات القدرة أو حالات الإرادة، بل هي هذه القوى عندما تكون في عالم الممكن، قبل إخراج هذا الممكن ليكون واقعا، كاليدين - مثلا - «يمكن» أن تقبضا على الأشياء، دون تحديد لشيء معين قد قبضتا عليه بالفعل، أو قل: إن النفس أو الروح - التي هي هي الإنسان في أكمل معانيه - هي «وظائف» يمكن أن تؤدى، فإذا ما أديت بالفعل كانت هي الأفكار المعينة أو الأفعال المعينة التي يتألف منها تاريخ الفرد الإنساني على هذه الأرض، وبالطبع قد يتفاوت الأفراد في أشواط هذه القدرات الممكنة، وبالتالي في آماد ما يفعلونه، ولست أعلم بماذا يجيب «النظام» لو سألناه: كيف يكون البعث لروح كل صفتها أنها مجموعة استعدادات وقدرات؟ إن نظرة «النظام» إلى النفس أو الروح على أنها قدرات، قد تلتئم التئاما كاملا مع تيار الفكر في عصرنا نحن، ولكني ما زلت أتساءل: كيف كان وقعها في محيط عصرها؟ أم تراني لم أحسن فهمه في هذا الصدد؟!
وأما المسألة الخامسة فقد أراد بها أن يبين الحدود الفاصلة بين ما هو من قدرة الإنسان وما هو من قدرة الله، والفكرة على طرافتها ولطافتها، لا أظنها تفيدنا شيئا، فهو يقول ما معناه: إن الإنسان إذ يتناول بفعله شيئا ما، فإن ما يقع في حدود فعله هذا إنما هو من قدرته، غير أن الشيء لا تقف حركته عند هذه الحدود وحدها، بل يجاوزها، فيكون هذا القدر الذي جاوز به هو من قدرة الله، أفرض أنني قذفت بحجر، فعندئذ تكون حركة الحجر نتيجة فعلي ومقدورة بقدرتي، لكن الحجر لا يظل عالقا في الهواء، بل إن طبيعته تقتضيه أن يسقط على الأرض بفعل الجاذبية، فهذا السقوط وهذه الجاذبية الأرضية لم يكونا جزءا من فعلي، ولا مقدورة بقدرتي، إنما هما لازمان عن طبائع الأشياء ذاتها، ولما كانت هذه الطبائع هي من خلق الله وصنعه، كانت الأفعال التي تقع من الأشياء - بعد استنفاد نتائج قدراتنا نحن - هي من فعل الله وبقدرته، هذا ما يقوله «النظام»، وفاته - فيما يبدو - أن لا فرق في حقيقة الأمر بين الشطر الذي نسبه لفعل الإنسان والشطر الذي نسبه لفعل الله؛ لأنه لو كانت سقطة الحجر وجاذبية الأرض قد جاوزت حدود فعلي، فتحتم علينا أن ننسبها إلى طبيعة الحجر وطبيعة الأرض، أو بعبارة أخرى، ننسبها إلى فعل الله؛ لأن هذه الطبائع هي من فعله، فإن قدرة الذراع على القذف، واستجابة الحجر بانقذافه، هما كذلك من طبيعة الذراع البشرية ومن طبيعة الحجر، ففيم التفرقة إذن؟ لقد كان «النظام» ليكون أدنى إلى الصواب إذا هو رد الحركة كلها؛ ذراعا بشرية كانت هي المتحركة، أو حجرا منقذفا، أو حجرا ساقطا منجذبا للأرض، أو أرضا جاذبة، إلى قوانين، وليقل إذا شاء: إن هذه القوانين من فعل الله، فلا يغير ذلك من الأمر شيئا؛ لأن الذي يبقى بين أيدينا هو قوانين يمكن أن نفهم بها ما يحدث، وأن نتنبأ على أساسها بما عساه أن يحدث، ومع ذلك فإن التفرقة التي يميز بها «النظام» جزءا من الفعل عن جزء، جاعلا أحد الجزأين مقدورا للإنسان، والجزء الآخر محتوما بحكم طبائع الأشياء، تفرقة تدعو إلى إمعان النظر.
ولو أفضنا القول في المسألتين السادسة والسابعة، لوجدنا أنفسنا نتحدث بلغة إحدى المدارس الفلسفية المعاصرة، التي تجعل حقيقة الشيء في مجموع ظواهره، وهو مذهب يمكن القول - مع قليل من التجوز - إن بادئه في الفلسفة الأوروبية الحديثة هو ديفيد هيوم في القرن الثامن عشر، وخلاصته إنكار لأن يكون للشيء المعين جوهر مغيب وراء ظواهره التي تبدو منه للحواس المدركة له، فليست البرتقالة - مثلا - إلا لون وطعم ورائحة وشكل وملمس ... إلخ، اجتمعت معا مرتبطا بعضها ببعض بطائفة من علاقات، فإذا طرحنا هذه الصفات البادية من حسابنا واحدة في إثر واحدة، كان باقي الطرح لا شيء؛ على حين كانت وجهة النظر الأخرى تقول: إن الذي يبقى في أذهاننا بعد طرح هذه الصفات البادية هو «جوهر» البرتقالة، وها هو ذا «النظام» يذهب إلى أن الجواهر - جواهر الأشياء أو حقائقها - مؤلفة من أعراض اجتمعت، وليس وراءها شيء.
والذي يستثير سؤالنا في هذا الموضع هو: ترى هل قصر «النظام» قوله هذا على الأشياء الجوامد دون الأحياء؟ أو هل قصره على الأشياء الجوامد والأحياء دون الإنسان وحده؟ ولست أظنه قد بلغت به الجرأة الفكرية حدا يجعله يوسع هذا القول ليشمل الإنسان مع سائر الأشياء والأحياء، كما فعل هيوم في الفلسفة الأوروبية الحديثة؛ وذلك لأن تطبيق القول على الإنسان، يجعل الإنسان في حقيقته حزمة من صفات لا ترتكز على جوهر داخلي، لكن هذا القول ينفي وجود نفس أو روح، مما كانت تستلزمه العقيدة الدينية والرأي العام في آن معا، لقد استطاع هيوم أن يشمل بالفكرة كل شيء؛ إنسانا وغير إنسان، فلم يحل بينه وبين ذلك عقيدة ولا رأي عام شائع بين الناس، ولا أظن «النظام» قد أراد هذا الشمول الواسع للفكرة، وعلى كل حال فحتى هذه النظرة المبتورة المجزوءة في إنكاره ل«الجوهر» واكتفائه ب«الظواهر» عند الإشارة إلى حقائق الأشياء، كفيلة له عندنا بإحلاله محلا رفيعا في دنيا «العقل» والعقلاء.
Halaman tidak diketahui