Macqul dan La Macqul dalam Warisan Pemikiran Kita
المعقول واللامعقول في تراثنا الفكري
Genre-genre
وهنا قد تسأل: وما جدوى الأقسام التي لا يقع فيها لفظ مما ورد في استعمال العرب؟ والجواب: جدواه هو عند استخدام القياس المنطقي في صلاحية لفظة مستحدثة أو عدم صلاحيتها، فبحكم كونها مستحدثة لأسباب حضارية طرأت على حياة العرب، لا يكون لها سابقة، وعندئذ نكون في حاجة إلى قاعدة نحتكم إليها، هل تنساق اللفظة المستحدثة مع اللسان العربي أو لا تنساق، والاحتكام في هذا يكون للأبنية النظرية التي أسلفنا ذكرها، وفي هذا وحده هداية كافية لنا، ندرك معها المعنى المقصود، حين يصف المؤرخون مدينة البصرة في تلك الفترة من التاريخ، خصوصا كلما أرادوا موازنة بينها وبين الكوفة، فيقولون: إنها «عقلانية» المنحى، تعتمد على «القياس» المنطقي في أحكامها، ولا تقصر نفسها - كما فعلت مدرسة الكوفة - على المسموع والموروث.
وكما اقتضت ظروف الحياة العملية ومشكلاتها آنئذ جمع مفردات اللغة وتبويبها والنظر في طريقة بنائها وتصريفها، فقد اقتضت كذلك جمعا «للشواهد» من الأدب العربي القديم؛ ليستدل منها على طريقة استخدام اللفظة عند أصحاب اللغة الأولين؛ إذ لا يكفي لمعرفة معنى اللفظة الواحدة أن تراه وهو في المعجم معزولا وحده عن السياق الذي يبين استعمال تلك اللفظة، وإنه ليجدر بي في هذا المقام أن أحيل القارئ إلى بحوث فلسفية في عصرنا هذا، وفي إنجلترا بصفة خاصة، تفرعت كلها عن تيار فلسفي معاصر يرى أهم مهمة للفلسفة في أن تقف عند بنية اللغة العلمية كيف تقام، بدل أن تشطح في مسائل ميتافيزيقية ليس لها حلول، ولو وقفنا عندها إلى أن يبيد الدهر، لا لأنها مسائل صعبة مستعصية على الأفهام، كما كان شائعا بين الناس، بل وبين الفلاسفة أنفسهم، بل لأنها - كما كشف بذلك فلاسفة التحليل اللغوي الذين أحيل القارئ إلى بحوثهم المستفيضة - صيغت في عبارات من اللغة لم يحكم بناؤها، وبالتالي جاءت تركيبات من لفظ لا تحمل معنى، ومن ثم استحال أن نجد جوابا لسؤال صيغ مثل هذه الصياغة الخالية من المعنى، أقول: إنه ليجدر بي في هذا المقام أن أحيل القارئ إلى بحوث فلسفية في عصرنا هذا، يدافع أصحابها عن وجهة النظر التي تقول: إن معنى اللفظة لا يتحدد إلا وهي في عبارة من ذوات المعنى، وأما إذا أفردت وحدها، فهي رمز بغير معنى.
وأحسب أننا على ضوء أبحاث كهذه، نستطيع رؤية أوضح للقيمة العلمية الكامنة في محاولات الباحثين الذين أرادوا تحديد معاني المفردات بالشواهد التي يجمعونها من كلام الأسبقين أصحاب اللغة الأولين، وأين عساهم أن يجدوا تلك الشواهد إلا في أبيات من الشعر القديم؟ لقد كان الشعر هو الأداة الطبيعية التي يصوغون بها كل ما أرادوا قوله، فأي غرابة أن نجد العقلية الرياضية الرائعة عند رجل كالخليل، يستوقفها منزلة الشعر في العملية العلمية التي كانت تدور رحاها في شوارع البصرة محدثة دويها الهائل الذي ملأ أسماع الناس من عامة الجمهور، فكيف بمسمعي الخليل بن أحمد، بكل ما فيهما من حساسية مرهفة للصوت والنغم والإيقاع؟!
فلينظر - إذن - في الشعر العربي كيف بناه بانوه وبنوه، كما نظر في لغة العرب كيف بنيت ألفاظها وكيف ينبغي أن تبنى؟ فما هو إلا أن يستخرج من الشعر صوره بعد تفريغها من مادتها، فإذا هذه الصور ما نعلمه من أوزان الشعر العربي وبحوره، فبأي الرجال تقيس الخليل في عمله ذاك، إلا أن تقيسه إلى قمة شامخة مثل أرسطو اليوناني، حين استعرض الأقوال العلمية التي تديرها حوله ألسنة العلماء في مختلف الميادين فإذا هو يفرغ تلك الأقوال من مادتها ليقع على صورها، وإذا هذه الصور هي «المنطق» الذي لبث عماد الدنيا المفكرة بأسرها، منذ أيام واضعه اليوناني وإلى عصر حديث، قريب جدا من عصرنا الراهن، حين لمح الرياضيون المحدثون في صياغات العلم الحديث صورا أخرى تباين الصور الأرسطية الأولى، وهكذا صنع الخليل للشعر العربي حين أفرغه من مادته ليرى على أي الصور العروضية ركبت تلك المادة، ولقد قيل عنه فيما قيل: إنه حدث ذات يوم أن سمع في بعض طريقه وقع مطرقة على طست، وكان عندئذ يردد لنفسه بيتا من الشعر، فإذا المقارنة بين إيقاع المطرقة وبين إيقاع ألفاظ البيت الشعري في مسمعيه، تلمع في ذهنه كالقبس، وهكذا جاءت الفكرة بأن يقطع الشعر تقطيعا أدى به في نهاية الأمر إلى حصر بحور الشعر! فاللهم إن كان الذكاء قوامه - كما يتفق على ذلك عدد كبير من علماء النفس اليوم - لمح التشابه والتباين بين الأشياء والأفكار والمواقف، فماذا نقول في ذكاء لمح مثل هذا التشابه بين صوت مطرقة على طست، وبين وزن بيت من الشعر يردده، بحيث كان ذلك فاتحة لتأسيس علم أشبه بالعلوم الرياضية في صورته ودقته ودوام صوابه على امتداد القرون؟
18
في وقفتنا هذه التي اخترنا أن نقفها في مدينة البصرة خلال القرن الثامن، لنرى كيف أخذت النظرة العقلية مأخذها عند أصحاب الفكر عندئذ، بعد أن رأينا في الفترة السابقة علما ينساب مع الفطرة بغير محاولة التعريف والتقسيم، والتبويب والترتيب، أقول: إننا في وقفتنا الثانية هذه على طريق رحلتنا الثقافية في تراثنا الفكري، لو أننا اكتفينا برجال النحو وحدهم، لرأينا ما يقطع بنضج النظرة العقلية وارتقاء المنهج العلمي؛ إذ نرى علماء في هذا الميدان أرادوا أن يخضعوا اللغة لشكائم القواعد، حتى لقد غالوا في التمسك بالقواعد وبطريقة القياس عليها تمسكا جعلهم - كلما وجدوا عند العرب الأقدمين استعمالا لا يجري مع القاعدة التي صاغوها - يعدونه شاذا ينبغي البحث له عن مبرر يجيز إدراجه تحت هذه القاعدة أو تلك - فكأنهم في ذلك «بروقرسطس» الذي وردت عنه أسطورة فحواها أنه أعد للمسافرين نزلا في بعض الطريق، لكن حب النظام والتناسق أغراه بأن يصنع الأسرة كلها في نزله على طول واحد، فإذا مر به نزيل أقصر قامة من طول السرير، مطه مطا حتى تتساوى قامته مع هذا الطول، أو جاءه نزيل أطول قامة من طول السرير، جذ ساقيه حتى يظفر بالتساوي الذي ينشده!
كانت البصرة في الفترة التي نتحدث عنها هي موطن «العقل » الذي يحاول ألا ينثني مع عاطفة أو تزمت أو عصبية، فلا غرابة أن وجدناها سباقة إلى صب الفكر في قوالب المنطق، أو إن شئت فقل: صبه في أطر رياضية (والمعنى واحد)، وكان اهتمامهم بعلم النحو، أي بالتماس القواعد التي يطوع لها كلام العرب، سواء تحقق لهم هذا التطويع على صورة طبيعية، أم افتعلوه افتعالا بقسرهم الشاذ - والشواذ عن قواعدهم كانت أكثر من أن تهمل أو يغض عنها النظر - على أن يجد إلى القاعدة طريقا حتى ولو كان طريقا غير مباشر، وفيه كثير من التكلف والتعسف، فما استحال معهم أن يجد طريقه إلى قواعد النحو حتى عن هذا الطريق الملتوي المعتسف، قالوا إنه لا يصلح أن يقاس عليه؛ لأنه خطأ.
وكان إمام البصرة في هذا كله هو سيبويه - تلميذ الخليل بن أحمد - ويسمى كتابه في النحو «الكتاب» بأداة التعريف، على اعتبار أنه العلم الذي لا يحتاج إلى تمييزه مما سواه باسم خاص، وكان يكفي أن يتفاهم الدارسون بعضهم مع بعض بقولهم: قرأت كذا وكذا في «الكتاب»؛ ليعلم السامع أنه كتاب سيبويه، وإنه لمما يدعو إلى العجب أن نرى مثل هذا الكتاب العملاق في موضوعه قد ظهر فجأة وكأنه نبات شيطاني لم تسبقه المقدمات الكافية التي تبرر ظهوره، مما يغري مؤرخي الفكر العربي بافتراض سوابق له تدرجت مع الزمن حتى استطاع علم النحو أن يبلغ هذه القامة السامقة التي بلغها في «الكتاب»، وهو موقف يذكرنا بما يقال في أشباه كثيرة لهذا الظهور المفاجئ لكيان ضخم؛ فهكذا يقال - مثلا - عن تمثال أبي الهول وأهرامات الجيزة بمصر، وغيرها من آثار الفترة الأولى التي هي بمثابة الفجر من تاريخ مصر القديمة؛ إذ يتساءل علماء المصرلوجيا: كيف أمكن أن يكون بدء الحضارة بهذا الوليد الرشيد الواعي؟ لا بد أن تكون هنالك مراحل سابقة تدرج فيها الصعود بخطوات لم يثبتها لنا التاريخ، حتى وصلت إلى هذا النضج كله دفعة واحدة، وهكذا أيضا يقال في الأدب الألماني على يدي جوته في أوائل القرن التاسع عشر؛ إذ ليس هنالك في تاريخ هذا الأدب سوابق تفسر هذا الوجود العظيم المفاجئ، والأمثلة كثيرة في تاريخ الفكر والفن والحضارة بصفة عامة.
نعم، إن سيبويه في «كتابه» يحيل الدارس على أسلاف له في مواضع كثيرة، لكن البناء من حيث هو وحدة متسقة، ملئت بالتعليلات العقلية والاستدلالات المنطقية، ودقة الموازنة بين رأي ورأي، ثم الترجيح لرأي دون آخر ترجيحا بصيرا، هو الذي يلفت النظر بشموخه وشموله، مهما يكن في ثناياه من إحالات على هذا الرأي أو ذاك، ومع هذا النضج كله، والعمق كله، والإلمام الواسع كله، فقد مات سيبويه وله من العمر نيف وثلاثون عاما! فمتى وكيف أتيح له هذا التحصيل الغزير، وهذه الأحكام السديدة في موضوعه؟ ألا إنه - كأستاذه الخليل - رجل تجسدت فيه العبقرية، التي - كما أسلفنا القول - تتقمص العبقري فتوجهه الوجهة التي يريدها العصر، وكان الذي أراده عصر سيبويه هو دراسة اللغة والنحو؛ ليقوم فهم الناس للقرآن على أساس متين.
وبرغم اختيارنا للبصرة مكانا لازدهار «العقل»، فأظنه من الملائم في هذا السياق أن نذكر كيف اقتضت عقلانية البصرة المتشددة في التزام القواعد وتطبيقها، ورفض ما لا ينساق معها من لغة العرب أنفسهم، إذا استعصى على الانطواء تحت هذه القاعدة أو تلك من قواعد النحاة؛ أقول: إن هذه العقلانية المتشددة كان لا بد لها أن تستثير جانبا آخر يعارضها ليحدث التوازن، وكان أن ظهرت المدرسة المعارضة لعقلانية البصرة، في الكوفة، وعندئذ قام التناظر بين المدينتين على نحو لا يتحقق إلا إذا تحققت للناس فاعلية فكرية مستعرة.
Halaman tidak diketahui