Macqul dan La Macqul dalam Warisan Pemikiran Kita
المعقول واللامعقول في تراثنا الفكري
Genre-genre
وكذلك روى صاحب «قوت القلوب» عن بشر بن الحارث قوله: «لا تحسن التقوى إلا بزهد؛ العبادة لا تليق بالأغنياء. مثل العبادة على الغني، مثل روضة على المزبلة، ومثل العبادة على الفقير مثل عقد الجوهر في جيد النساء.»
سئل الجنيد عن الزهد فقال: معنيان، ظاهر وباطن؛ فالظاهر بغض ما في الأيدي من الأملاك، وترك طلب المفقود؛ والباطن زوال الرغبة عن القلب، ووجود العزوف والانصراف عن ذكر ذلك. الزاهد يجد في العمل بتقصير الأمل وتقريب الأجل. يكون في الزهد استواء الأشياء فيكون عدمها كوجودها.
وهكذا وهكذا تستطيع أن تجد في تراثنا عن الصوفية ألوف الصفحات من هذا القبيل. ولقد يكون في هذه الأقوال وأمثالها جاذبية لقلوبنا، لكني أسأل: إذا فرضنا أن أمة في عصرنا قد تشبع أفرادها بهذه المثل، ثم جاءهم «مصلح» يمنيهم برفع مستويات معاشهم ووفرة محصولهم، وبإقامة مشروعات اقتصادية وصناعية تعطيهم القوة والغنى، بل وإذا وعدهم بنشر التعليم، فماذا هم قائلون له؟ ألا تراهم يصمون آذانهم عن دعوته؛ لأن «إصلاحه» هذا إنما هو تخريب للنفوس، ولأن زيادة الثراء اهتمام بالدنيا وذلك مذموم، ولأن نشر التعليم انصراف إلى كتب وكتابة، وهو ما لا يريدونه حتى ينسدل حجاب بين المرء ونفسه؟ أم إنهم يريدون للنموذج الصوفي أن يقتصر على صفوة قليلة، وألا يشيع في الناس؟
إن في تراثنا ميلا شديدا نحو تحقير الحياة الدنيا والتقليل من شأنها وضرورة أن يصرف الناس أنظارهم عنها حتى لا تفتنهم الفانية عن الباقية، وهو ميل قد تخفق له قلوبنا وتهتز مشاعرنا لكثرة ما أوصينا به، لكنه يتناقض تناقضا صريحا مع أسباب النجاح والقوة في عصرنا، وعلينا أن نختار؛ فإذا قال قائل: «ليس من الناس أحد إلا وهو ضيف على الدنيا، وماله عارية، فالضيف مرتحل والعارية مردودة.» ثم أعجبتنا الصياغة الأدبية الجميلة، فلا يجوز أن يفتننا جمال اللفظ عن فساد المعنى؛ لأنه إذا كان الإنسان ضيفا على الدنيا وشيك الارتحال، وذلك من حيث هو إنسان فرد، فليس هو كذلك من حيث هو نوع تتعاقب أجياله أبد الدهر؛ وإذن فالعمل المنتج الثابت واجب مفروض، وليس صحيحا أيضا أن «المال عارية والعارية مردودة»؛ لأن معنى المال قد يتسع ليشمل المنشآت الصناعية الكبرى والمشروعات الحضارية العظيمة، فهذه رواسخ ثابتة على فترات طويلة من الزمن وليس «عارية مردودة»؛ وهكذا نجد في تراثنا الأدبي ما يبث قيما تصرف الناس عن الحياة الدنيا بكل أوجه نشاطها؛ فإذا أردنا معايشة عصرنا في حيويته وعقلانيته، وجب أن نسقط من حسابنا كل ما من شانه أن يجمد في عروقنا دماء الحياة أو يتجه بنا وجهة اللاعقل هذه، سئل علي بن أبي طالب أن يصف الدنيا، فقال: «ما أصف من دار أولها عناء وآخرها فناء ...» وهذا صحيح، لكن لا ينبغي أن يفوتنا بأن المعول هو الطريق الممتد بين عناء الولادة وفناء الموت. إن محفوظاتنا التي نحفظها من مأثورات التراث، ونحن بعد في المدارس الابتدائية أطفال، ثم تظل تتدرج معنا في الخط نفسه كلما ارتقينا سلم التعليم، تكاد تلتقي كلها - في هذا الموضوع الذي نتحدث الآن عنه - عند نقطة واحدة هي التحريض على الفرار من الفاعلية الحيوية التي يقتضيها الإقبال على الدنيا، بحجة أنها «فانية» و«باطل يصرف النظر عن سبيل الحق» وما شابه ذلك، فنخرج من المدارس آخر الشوط وهذه هي النماذج المثلى أمام أبصارنا، ولولا أن فطرة الحياة نفسها تدفع الأحياء في الطريق السليم، لتأثرنا بهذه النماذج، كما يفعل المتصوفة الزاهدون، فنترك الدنيا لا أدري لمن؟ كل هذا نشأ من عوامل ثقافية في كياننا الفكري، من بينها انحصار النظر في حياة «الفرد» الواحد، ولا عجب بعد ذلك أن تسرع مؤسساتنا الاجتماعية إلى الانهيار؛ لأن شرط بقائها هو أن يعمل الأفراد ونصب أعينهم امتداد البقاء ل «الأمة» في مجموعها الذي يتخطى في وجوده حواجز الزمن. من منا لا يحفظ منذ طفولته عبارات حكمية وأبياتا من الشعر تحاول بجمال صياغتها اللفظية أن تنفره من الدنيا بكل من فيها وما فيها؟ وإنه ليقفز إلى ذاكرتي الآن بيت أبي نواس:
إذا امتحن الدنيا لبيب تكشفت
له عن عدو في ثياب صديق
ولم ألحظ إلا الآن حقيقة محتواه، فما هي الدنيا إلا أن تكون ناسا وطبيعة؟ فكيف لا تكون الطبيعة ولا يكون الناس - بعد امتحان تلك وهؤلاء - إلا أعداء اتشحوا بثياب الأصدقاء ليخدعونا؟ أليس الناس هم الذين أتعاون معهم ويتعاونون معي على إعداد الطعام وإقامة البيوت، وعلى التعليم من جهل والتطبيب من مرض؟ ثم أليست الطبيعة هي ما فيها من ضوء وكهرباء وهواء وماء وحديد ونحاس، فلو كانت هذه كلها أعدائي وأردت اجتناب عداوتها، فماذا يقترح علي أبو نواس بديلا لها ليكون هو الصديق؟ أحسب أن لا بديل إلا الموت، وهذه هي خلاصة ما يحملنا الجانب الصوفي من تراثنا على فعله. إنه لمما يميز العقل البدائي أن يرى صاحبه في كل شيء إما عدوا أو صديقا، مع أن الصداقة والعداوة - عند النظرة الأعلى - لا يجديان نفعا لمن شاء أن «يفهم» العالم من حوله على أسس موضوعية علمية.
أود هنا أن أؤكد للقارئ بأنني - كسواي من حملة التراث العربي - أحس خفقة القلب كلما قرأت للمتصوفة أو لغيرهم ممن يبشرون بالقيم نفسها، وكأنما هي الخفقة التي تحفزني أن ألبي الدعوة إلى زهد في الدنيا وانصراف عنها، وإلى وأد الرغبات في أكمامها؛ وبالتالي وأد النفس في منبتها، لكنني بكل هذا الذي أعرضه على القارئ من وجوب الإعراض عن الجانب اللامعقول من تراثنا، ونشر المعقول وحده من ذلك التراث. إنما أغالب في جوفي نزعة بثها القوامون على تربيتي وتعليمي بما وضعوه أمام عيني من نماذج حملوني على احتذائها ولو من الناحية النظرية التي تجعلها أملا إن لم تكن عملا.
مؤدى النظرة الصوفية الزاهدة التي يحملنا عليها التراث في جوانبه اللاعقلية هو أن الدنيا بأسرها «وهم»، لا فرق فيها بين ما يعده الناس خيرا وما يعده الناس شرا. نقول «ما يعده الناس»؛ لأن المتصوف حينما يعلو عن تفصيلات الحياة الدنيا بخيرها وشرها، يرى أن «الحق» الأعلى هو خير صرف، فلئن كانت ظواهر الحياة الدنيا تتفاضل خيرا وشرا في أعين الناس، فالكون في إجماله خير ويستهدف الخير وليس ثمة شر يعارضه، ولو اصطنعنا هذه الوجهة من النظر لما عرفنا بأي مقياس نميز بين المحمود والمرذول من جوانب حياتنا العملية، عندما نسعى فيها إلى علم وصناعة وزراعة وغير ذلك، إذا كانت هذه كلها أوهاما يجب الارتفاع عنها إلى حيث «الحق» الذي تنمحي فيه الفواصل والتجزئة. ولطالما تردد في النفس سؤال كلما طالعت كتابا أو قولا لمتصوف، يحاول به أن يردنا عن أوهام الحياة الدنيا وخداعها إلى عالم أعلى هو عالم «الحق»، الذي يتنزه عن تحولات الزمن وتغيراته: ترى ماذا عسى هذا الوجدان الصوفي أن يكشف لنا من حقائق الدنيا؟ إنه لا يكشف لنا البتة عن شيء، اللهم إلا عن طبيعة نفسه هو، أو قل إنه قد يكشف لنا عن طبيعة النفس البشرية عامة، وذلك على أحسن الفروض. أما ما ليس نفسا بشرية فهو فيه أشد منا جهلا؛ فلا طبيعة الكون بصفة عامة عرفناها منه، ولا طبائع الكائنات بصفة خاصة كشفت لنا، فسواء وجد هذا الجانب اللامعقول من تراثنا أو لم يوجد، فلم يكن ليتأثر بوجوده أو بعدمه إنسان واحد من البشر في طريقة معايشته لظروف هذا العصر العلمي العملي الصخاب بضروب الحركة والنشاط.
الفصل العاشر
Halaman tidak diketahui