فدلني مرة رجل من معارفنا على ما يستوقف دوننا دهمات أبي الضلال، وكان من رأيه أن ننشئ جريدة بجنيف تنشر بالتركية والعربية والفرنساوية، نذكر بها مثالب هذا العدو الغاشم ونبين مخازيه ليحذره السلطان بعد ذلك أو ليضطر إلى حذره تنصلا منه أمام رعيته، فكلمنا في ذلك رضا باشا وأسعد أفندي شقير. غير أن رأي أسعد أفندي كان موافقا لرأيي في جعل الجريدة جريدة حرة محضة. وقد صدق إذ كنا أقدر الناس على معرفة ما يقع بيلديز، ولو شئنا لنشرنا نص كل إرادة سلطانية من قبل أن تبلغ إلى الباب العالي، ولكن مصطفى ظافر خاف على نفسه وأبيه غضب السلطان، وقال: إذا ظهر أمرنا يوما فماذا يصيبنا؟ أما أنتم فتسجنون أو تنفون ، ولكنني أنفى وأسجن وأزيد عليكم بما يحل بأبي في كبره وبإخوتي من بعده ما يبدد شملنا ويفني حتى أعقابنا، فلما رأينا هذا الخلاف عدلنا عن الأمر. وكان «ح. ح» يريد السفر إلى مصر، فقال لمصطفى ظافر: إنه سيتفق مع صاحب المؤيد على إصدار جريدة أسبوعية تكون لسان حالنا. ولما وصل مصر أتت كتبه وليس فيها شيء سوى الثناء على بدائع مصر وعلى صاحب المؤيد حامي مصر والمصريين!
بعض ما مر علي بنظارة المعارف
عاد الحديث
ليت هذه البلايا التي داهمتني خارج وظيفتي هادنتني وأنا فيها، فأتسلى بما صفا من شطر الحياة عما كدر من شطرها الآخر، فمن يملأ إذن هذه الصحائف بهذه المخازي؟ وماذا كان يتسنى لي من الشكاية لو تساوى الطيب والرديء في تناوبهما؟ هيهات! ذاك زمان عبد الحميد الثاني، يظل الكاتبون يكتبون فتنفد المعاني وتمتنع الألفاظ ولا يحصى لتلك المساوئ عد ولا يمكن لقليلها شرح.
لما مر علي بعض الشهور بعد نقلي إلى نظارة المعارف، ووقفت على ما تيسر لي من أعمال المجلس الأعلى؛ أخذت أعترض على ما أراه مخالفا، وأرشد إلى ما أحسبه موافقا، فساء ذلك رفاقي وجعلوا يؤاخذونني على ما أجري عليه من هذا المنهاج. وأبغضني زهدي باشا ناظر المعارف وغضب علي أنصاره وشركاؤه في النهب، فأنفذ إلي علي غالب بك مدير الأوراق حاجبه يدعوني إلى حجرته. وكان راسخ أفندي أحد الأعضاء الذين سبق ذكرهم في أحد الفصول المتقدمة جالسا إلى جانبي، فالتفت وسألته من هو غالب بك الذي يدعوني إلى حجرته؟ فقال لي: هو مدير الأوراق بنظارة المعارف، وهو ألباني الأصل شرس الطباع، لا يخاف أحدا ولا يكرم أحدا، فأرجع إليه حاجبه بكلام لين لا يهيج له غضبا؛ فقد ضرب يوما أحد أعضاء مجلس الأنجمن (مجلس مراقبة الكتب والمؤلفات الأخرى)، والمضروب رجل هرم اسمه طاهر أفندي، ضربه في حجرته بهذه النظارة بمشهد من موظفي المعارف كلهم، ولم يستطع أحد منهم أن يعارضه. ثم ذهب طاهر أفندي باكيا معولا ورفع شكواه إلى السلطان، فلم يغنه ذلك فتيلا وما سأل الضارب أحد، ولا أقول إنه ربما ضربك، ولكن من يضمن لنا أنكما لن تتضاربا.
قلت: إن مدير الأوراق لا يقدر أن يأمر أحد أعضاء المجلس الأعلى، ومن أجل هذا كنت أود ألا أذهب إليه، ولكن لما كان الرجل ممن يتوعدون ويضربون ولا يسألون عما يفعلون فقد وجب علي أن أبادر إليه لأرى ما سيكون من أمره. ثم تبعت الحاجب إلى حجرة علي غالب، فدخلت عليه وهو جالس أمام مكتبته، يكاد يكون مضطجعا عليها، وخلفه سجادة على الحائط قد سمر عليها صولجان من الخشب وأشياء أخر لا أذكر الساعة ما هي. فسلمت عليه، فأجابني على سلامي قاعدا، فقلت: أخبرني الحاجب أنك تريد أن تكلمني. وها أنا بين يديك لأسمع ما تقول. - تفضل بالجلوس. - الوقت لا يسع إطالة الكلام، فقل ما بدا لك ولا حاجة بي إلى الجلوس. - أراك كثير الاعتراض على قرارات المجلس. وأنت تفعل ذلك لتظهر للناس أنك رب معرفة وأنك لا تخفى عليك خافية. ولكنك تخطئ في كثير من اعتراضاتك. - إن من حقي أن أعترض وأن أوافق، وما جعلت في المجلس إلا من أجل ذلك. أما الخطأ فلا أسأل عنه؛ والمراد أن يبدي كل رأيه وليس بين الناس من تكون آراؤه كلها صوابا. - نعم، ولكن الذين يكثرون من الاعتراض لا يفلحون، وأنا من المخلصين لسماحة الأفندي (يريد أبا الهدى) ولعطوفة البك (يريد عمي المرحوم فائق بك، وكان من أشد أصدقاء أبي الهدى)، فرأيت أن أنصحك في الرجوع عن جهل الشباب. فإذا قبلت نصيحتي شكرتني عليها في مستقبل زمانك، وإن أبيت إلا تماديا ندمت حين لا ينفع الندم. - نحن الآن بنظارة المعارف ولسنا بتكية أبي الهدى ولا بمنزل عمي، وأنا لا أقبل رأي أحد في أعمالي؛ فإن كان عندك رأي غير هذا فهاته. - ألا تريد أن تقلع عن اللجاج؟ - أتريد أن تتوعدني. إذن فاستمع: أنا رجل لا أبالي بالوعيد، وأعلم أنك من المسيطرين بهذه النظارة وكفى؛ فقد صبرت على كلامك طويلا، وكنت أريد ألا أحضر إجابة لدعوتك لتعلم أن مدير الأوراق لا يصح له أن يدعو أحد أعضاء المجلس. ولكنني علمت أنك تتوعد الناس، فحضرت لأعلمك أني لست ممن يخافون وعيدا، وإذا لم تبادر إلى الترضية طائعا أكرهتك عليها إكراها، فبهت الرجل من هذا الكلام وما سمع مثله من قبل، فجعل يتأملني من رأسي إلى قدمي. وكنت أكلمه وأضرب بيدي على مكتبته، ولما وصلت إلى آخر كلامي ضربت على تلك المكتبة ضربة قوية قلبت دواته، ثم قلت له: أنتم أناس لا تميزون بين الناس، ويستوي عندكم طيب وخبيث، ولو اعترضكم ذو جأش رابط يكم أفواهكم ويخفض من شماسكم لما تعديتم أطواركم ولوقفتم عند حد الأدب. فلما أتممت كلامي مشيت خطوات إلى الباب غير مسلم فسبقني إلى الباب وقال: ما كنت أحب أن تخرج من عندي غاضبا، وإنما حدا بي إلى هذا الكلام مودتي لك وإعجابي بك.
قلت: ومن أين لنا هذه المودة وأنا لم أرك إلا الساعة وليس بيننا سابق معرفة فتستوجبها علينا؟! ثم انصرفت. وفي الغد جاء علي غالب إلى الحجرة التي يستريح بها الأعضاء إذا فرغوا من المذاكرة، واعتذر لي عما فرط منه بالأمس. غير أن الواقعة كانت باتفاق بينه وبين ناظر المعارف. فلما جرى مني ما جرى من الرد والإباء رأى الناظر أن يعاقبني عقابا يكون رادعا لغيري؛ فرأى أن يغيظني بتأخير صرف شهريتي. وقد فعل ولكنه خاب في ذلك أيضا. فلما أبصر الأعضاء ما جريت عليه؛ شكروا إقدامي ودنا مني راسخ أفندي، فقال لي: إذا هممت بالخروج فانتظرني حتى نخرج معا. ففعلت، فسار بي إلى حديقة بقرب «آيا صوفيا» جلسنا بقهوة فيها، فقال لي: رأيتك ذا جنان ثابت ونفس أبية. وقد أعجب الأعضاء بما جرى لك مع علي غالب وناظر المعارف، ولكن هذا كله آخره العطب. نحن بالآستانة، وهنا رجال لا يخافون إلها ولا يرقبون ذمة، فمن ترجو أن يكون نصيرك إذا تكاثر عليك الأعداء ووقعت بأيديهم؟ - أرجو أن يكون نصيري الحق. - هذا كلام حسن ولكنه لا ينفع. وما دعوتك هنا لأجبنك وأرجعك عن إقدامك، بل دعوتك لأخلص لك النصيحة؛ فإني أكبر منك سنا وأكثر منك تجربة. وما أشابت الأيام فودي إلا بعد أن انتابتني حوادثها بما يذهل العقول. فيجب عليك أن تتمسك بمحبة السلطان ودع كل امرئ سواه تعش آمنا، ولا يكن لأحد إليك من سبيل. فإذا سمعت امرأ يغتاب السلطان اكتب بذلك تقريرا وارفعه إليه، وإذا جرى لك مثل الذي جرى بينك وبين علي غالب بادر إلى القصر واكتب بذلك إلى السلطان. هذا سلاح لا يفل غربه ولا تنبو مضاربه، وكلنا متسلحون به، فإذا رضيت بنصيحتي نلت المرام وفزت حيث يخيب منازعوك. - أراك تدعوني إلى أمر لم أخلق له، وأنا أحب إلي أن يفوز علي خصومي من أن أفوز عليهم بالتجسس؛ فإن كان هذا مبلغ رأيك فهو رأي لن أتبعه، وإذا كنت أنت ممن يتجسسون فلن يتقارب قلبانا ولن تحدث بيننا ألفة ما دامت الحياة. - أنا لا أدعوك إلى التجسس بأن تتبع الناس في خطواتهم وتنصت إليهم في أحاديثهم، بل أدعوك إلى إخبار السلطان عمن يأخذون رواتبهم بفضله ثم يعملون على ما يضره. والمخلص لدولته لا يخفي عن سلطانه أمرا. - هذه فلسفة لا يمكن التغلب عليها. كل رجالنا يقولون مثل ما تقول، وكلهم يتجسسون كما تتجسس أنت. أما أنا فلم أتعود ذلك، وصعب على الإنسان ما لم يتعود. وإني لأشكرك إذ عرفتني نفسك فقد كنت أحسبك بمعزل عن هذه المسالك، والآن كشف لي الغطاء باعترافك. ولما فرغت من كلامي نهضت واقفا وحييته تحية المودع القالي، ولما رجعت إلى بيتي وفكرت فيما جرى لي بالمعارف، رأيت ترك الآستانة والهجرة إلى أوروبا أمرا لا بد منه.
ثم سخر الله لي ما استوقفني مضطرا؛ وذلك أن عبد الكريم بك أحد أحفاد الصدر الأعظم الشهير المعروف بالصقولي بعث إلي كتابا يقول فيه إن نظارة المعارف قررت بناء معهد جديد تسميه دار الأيتام، وستنفق عليه أربعة آلاف جنيه؛ وهو مبلغ كبير لو استبقته لغرض غير هذا كان أحسن. ولي أرض بالقرب من أبي أيوب الأنصاري بمكان يقال له «سودليجه» وهذه الأرض واسعة جدا، وفيها من حجارة البناء ما يكفي لما هو أعظم من دار الأيتام. وأنا أهب هاته الأرض هدية مني إلى المعارف لا أطلب عليها ثمنا ولا عوضا، ولا أريد شكرا ولا إعلانا ولا شهرة. فأشرت عليه أن يكتب عريضة بذلك إلى نظارة المعارف. فكتب، وأخذت العريضة معي وقدمتها باسم صاحبها على الوجه الرسمي، وأقمت أياما أنتظر ما سيكون من جواب ناظر المعارف، فلم يجب بشيء، وكان ينبغي عليه أن يبعث بهذه العريضة إلى المجلس الأعلى لينظر فيها ويكتب بعد ذلك خطاب شكر لصاحبها. وكنت أطلعت الأعضاء على العريضة قبل تقديمها إلى الناظر، فاتفقت مع جماعة منهم في مخاطبة رئيس المجلس، ولكنه تنصل عن تبعة المسألة وقال: نحن لا نعلم هذه العريضة رسميا، ولا حق لنا في طلب ما لم يرسل إلينا. فكان كلامه موافقا لنظام المعارف. وعلمنا أن زهدي باشا اتفق مع بعض الناس على ابتياع أرض بجهة اسمها «قزيل طوبراق» لتكون دار الأيتام قريبة من داره، ويتمكن من تفتيشها متى أراد. واتصل بنا أنه سينفق ألفي ليرة ثمنا للأرض وأنه سيحفظ الباقي لنفسه. فجعلت أعيب خطة الناظر بمحضر من الأعضاء وفيهم المخلصون له، وأقول بصوت عال: ما هذا الاختلاس! إذا كان زهدي باشا الذي سرق من نظارة المالية مائتي ألف جنيه أيام كان ناظرا عليها نقل إلى المعارف ليسرق منها دراهمها، فنحن لا نشاركه لا في سرقته ولا في عارها. فنقل هذا الكلام إلى الناظر، فزاد علي حقدا وبات لا يطيق ذكر اسمي بمجلسه. وقد انتصر له الأعضاء المخلصون، وشاء الله أن يفتضحوا فضيحة تكون عظة لغيرهم؛ وذلك أن عبد الرحمن بك ناظر المدرسة السلطانية كتب إلى المعارف يبين لها أن قد ظهر عجز كبير في واردات المدرسة فباتت دون مصاريفها، وأشار على النظارة بإلقاء القسم الثالث من درجات أجرة التعليم، فكتبت المضبطة بذلك وأرسلت إلى المجلس للتصديق عليها، فالتزمت السكوت حتى وضع الأعضاء أختامهم ولم يبق أحد منهم مخالفا، ثم أخذت المضبطة وكتبت على هامشها: إن نظام المدرسة السلطانية قبل بإرادة سلطانية، وليس للمجلس أن ينسخ إرادة السلطان. فأخذ الأعضاء ينظر بعضهم إلى بعض، فسألني الرئيس من أين لي ذلك؟ فقلت: إن نظام المدرسة السلطانية مطبوع. وقد وزعته النظارة على الأعضاء. فأخرج الرئيس من مكتبته نسخة ونظر في أولها فإذا مكتوب عليها هكذا: «صدرت الإرادة السنية السلطانية بقبول هذا النظام واتباعه في المدرسة السلطانية.» فكاد والله يسيل لعابه خجلا، وحاول أكثر الأعضاء أن يمحوا أسماءهم بألسنهم ولكن الحبر الزيتي لا ينصل له صبغ، فتركتهم في حيرتهم وأشعلت سيجارتي وجلست أدخنها وأنظر إليهم.
وكان يقع بمجلس مراقبة الكتب (الأنجمن) ما يقع بالمجلس الأعلى، حتى حدث خلاف بين الرئيس حسيب أفندي وبين بعض الأعضاء، ومنهم الشاعر التركي الشهير صديقي حيرت أفندي. ولكن تغلب الرئيس على الأعضاء واستقل بخاتم المجلس رغما من المخالفين له، وأيده زهدي باشا الناظر، وكان حسيب أفندي صنيعته. وقد آلى الرئيس لا يدخل المجلس أو يعزل حيرت أفندي وأبو النصر يحيى السلاوي. ولقد نال ما أراد وثبت على كلامه، فنقل السلاوي عضوا إلى جمعية الرسومات، وأنزلت درجة حيرت إلى مفتش المكتبات، ولم يغن اعتراضهما شيئا.
الحرب العوان
Halaman tidak diketahui