وكان عبد الحميد رجلا جاهلا لم يتذوق لذة العلم، ولم يتحل بشيء من الفضل، وكان يكاد يكون أميا. ولقد بلغني أنه لم يتمكن من قراءة أية ورقة من غير أن يساعده عليها مساعد. ولقد زار بعض العواصم الأوروبية مع عمه عبد العزيز، فشغل بتجسس أخيه المرحوم السلطان مراد عن أن يستفيد شيئا من آثار العلم والصناعة في تلك الأقطار. وما نشأ إلا في قصر تضاحكه الولائد في حرمه، ويسجد له المماليك لدى بابه. فإذا جلس جلس إليه المتفيهقون الثرثارون وعلى رءوسهم تلك العمائم التي لا أجد ما أشبهها به غير رءوس البصل، فيفيضون له في وصف الحور والغلمان، وكيف تزوج بهرام جور بنات السبعة ملوك كما ذكر في كتاب «هفت بيكر» وما كان من قبيله. غير أن صاحبنا ليس كذلك؛ فهو أمير أدبه أبوه فأحسن تأديبه، وراضت شبابه مدارس الملوك، وأخذ ما عرف من علومه عن أساتذة من رجال الفضل ونخبة أهل البلاد المترقية في العلم. أما لو كان عبد الحميد موزورا فما صاحبه بمأجور.
وإني ممن لاحظتهم العناية وخطروا على باب الإمارة؛ فقد سعت للإيقاع بي وأنا بالآستانة، ووشت بي إلى عبد الحميد، فأحلني السجن ونفاني بعد ذلك إلى سيواس كما سيأتي ذكره في فصل خاص، فلها علي حق الكرامة ولن أبرح أشدو بتلك المنن حتى يذهب ربيع الحياة.
كل هذه الإحن كادت تنطوي صحائفها ويسدل عليها ظلام النسيان. ورأيت قوما يطرون الإمارة بما لم يكن في سوابق آلائها، فقلت: يا سبحان الله! أهذا مبلغ إنصاف الناس؟ أبسمة واحدة في آن واحد تنسي بكاء مئات من عباد الله طوال الليالي؟ ورسول كان جاسوسا يصبح الآن شفيعا ويظل قبرك يا صالح جمال مهجورا لا يزوره زائر ولا يحييه في طريقه سائر؟ وتستقرين أيتها الأجسام الطاهرة في أجداثك المجهولة حزينة أرواحك في آخرتها كما كانت حزينة في دنياها، وتسير تلك المواكب خافقة أعلامها متسابقة بشائرها ويصف العثمانيون إجلالا لمن حارب إخوانهم تحت رايات عبد الحميد. يا ويل تلك الضمائر، ما أصبرها على الأذى! وما أغراها بهوى النضار!
روحي أيتها الأرواح المستطارة من أقفاص الفناء إلى فضاء الأبد، لا تتحاومي على مزدحم الآمال، ارجعي إلى بارئك مستصحبة غيرك من أرواح الشهداء في خالية العصور، قولي يا رب تبكي الشيعة على شهيد كربلاء، وتبكي كل أمة على شهدائها. وهاك أهلنا باتوا غارقين في الحداد، سر قومنا بمجد كنا سلالمه، وداسوا بعد ذلك قبورنا ونسوا بلادنا وأكرموا أعداءنا، فخذ بحقنا ما لنا سواك من نصير.
أخليتما داري أيها القصران، وأخليتما دور إخواني، وأقصيتماني سبعة أعوام طوال أتت علي في ريق الشباب وزالت عني وقد بلي الجسم، وحكمتما على هذا الخاطر بالجمد، وقد عودته على جولات طالما أعجب بها المتأدبون، ورفعتما السدود بيني وبين آمال تخذتها ذرائع إلى مكافحة الحوادث في ذودي عن وطن أنا من أبنائه، وما رجعت إذ رجعت إلا وقد أبدل البيان حصرا والشباب كبرة والبأس وهنا والأمل يأسا، ورأيت منكما المقال ورأيت منكما المودود، فإيه يا دهر يا أبا العجائب. ما أعرفك بمواضع النقص من بنيك!
إذا امتحن الدنيا لبيب تكشفت
له عن عدو في ثياب صديق
أنا في حزب الأحرار
الوطن يشكو ظالمه
حتى م تبكي العين طال البكاء
Halaman tidak diketahui