وقالوا عنه إنه يخاف أبا الهدى؛ لأن عنده صورة فتوى بخلعه مختومة بخاتم شيخ الإسلام المرحوم الشهير «عرياني زاده»، وأن أكثر الداخلين في الطريق الرفاعي ينتصرون لأبي الهدى. فلما بلغه قولهم هذا أضمر الشر لشيخه المحبوب. وفي ذات يوم أمر به فجاءه وبين يديه بعض الوزراء والمقربين، فقال له عبد الحميد: بلغني عنك أنك تفهم الناس أني أخافك على نفسي، وأنك تقدر على مناوأتي. هذا وأنت غرس نعمتي وإن قدرك لأحط عن أن يسمو إلى تراب قدمي، ثم بصق على وجهه وأخرجه من حضرته، وبقي بعد ذلك أبو الهدى شهورا لا يطرق له باب ولا يوطأ له بساط.
ومن هذا القبيل ما أورده هنا على سبيل الفكاهة وتتمة للفائدة؛ وهو أن عبد الحميد كان اتخذ «منيرا» سفير الدولة العلية في فرنسا سابقا، سيفا يضرب به الأحرار، فكان سفيره وكان جاسوسه أيضا، وكانت ظهرت في «جنيف» منذ عشر سنين قبل الآن جريدة هزلية تصويرية باللغة التركية تدعى «به به روحي»، وصدر عدد من أعداد هذه الجريدة وفي الصحيفة الأولى منها صورة عبد الحميد. وقد جلس على كرسيه وأمامه رجل من بطانته في يديه صندوق كبير عليه عدد كثير من طوابع البريد، وتحت الصورة هذه المحادثة:
حامل الصندوق :
أرفع إلى أعتاب مولاي الأعظم هذا الصندوق الذي أرسله عبده المخلص «منير بك» سفير الدولة بباريس؛ فقد أودعه كل ما استطاع جمعه من «الوريقات المضرة» التي ينشرها «الزون ترك» أعداء الدين والدولة لتصدر إرادته الشاهانية بإحراقها.
عبد الحميد :
لا تزال التجارب تزيدني كل يوم إعجابا بمنير وثقة بولائه، وليت لي كثيرين مثله يغالبون أعدائي ويتقدمون إلي بصدق الحب والولاء، فأجزل لهم المكافأة وأحبوهم المزيد. هلم إلى هذا الصندوق وافتحه لأنظر ما فيه من عجائب هؤلاء الأغرار.
وفي الصحيفة الثانية من ذلك العدد، عبد الحميد وقد استلقى على ظهره فوق كرسيه وفتح ذراعيه وقطب حاجبيه وامتقع لونه وبرزت مقلتاه وانقلب وجهه فكأنه إسفنجة مبتلة، والصندوق مفتوح وقد خرج منه صاحب «به به روحي» وفي يمينه مسدس يصوبه إلى صدر عبد الحميد، ورجل بطانته باهت عاض بسبابته، وتحت الصورة علامة الاستغراب تتلوها أصفار كثيرة، هكذا: !00000000.
ولما وقعت هذه النسخة بيد عبد الحميد كتب إلى «منير» يأمره ألا يرسل إليه صندوقا كما تقدم ذكره إلا بعد أن يتحقق بنفسه مما فيه، وأن يحكم قفله ويختم بخاتمه!
وكان لما يكتبه الأحرار وقع آخر في نفس عبد الحميد، أدركه كل فطن عارف بأحواله ومختبر حقائقه. وذلك أن الأحرار كثيرا ما كانوا يشيعون في جرائدهم أنه مريض، وأنه يود أن يعتزل الملك، فكان يبادر إلى تكذيبهم في جرائده لأنه لم يكن يرضى أن يشاع عنه أنه مريض ولا أنه على نية الاعتزال.
وكان الأحرار يختلقون أنباء لا أصل لها، فيكتبون في صحفهم أن فئة منهم على أحسن أهبة وسلاح سيظهرون قريبا بالآستانة، فتذهب جماعة منهم لاستخلاص السلطان مراد، وكان معتقلا بقصر «جراغان»، وتذهب جماعة إلى خلع عبد الحميد وسجنه مكان مراد. فتصل هذه الصحف الآستانة، فتقوم لها القيامة ويشتد الهول، ويطفق رجال الشرطة يتراكضون يمنة ويسرة صعدا وصببا، يطلبون تلك الفئة التي أخبرت عن ظهورها الجرائد الحرة، فما رأوا نفرا متجمعين إلا انقضوا عليهم وأمسكوا بتلابيبهم وجروهم إلى رؤساء الشرطة يستنطقونهم. فكان هذا وما ماثله من الفصول المضحكة في مرسح الإدارة الحميدية.
Halaman tidak diketahui