أكثر الناس لا يعلمون ما حمل بعض إخواننا الأكراد على مباغضة إخواننا الأرمن؛ فهم يلتمسون الأسباب ولا يجدونها، وإن من تلك الأسباب التي خفيت عنهم أن قبائل من الأكراد كانت فيما مضى من الزمان أرمنية، ثم آثرت التدين بدين الإسلام إبقاء على حريتها وتوكيدا لنيل رغائبها. فبزت قديمها ورفلت في جديدها، إلا إنها ظلت محقرة عند أخواتها مرزأة في غلوائها؛ فمن هذه القبائل المتغيرة قبيلة «ماميقون» الكردية، كانت من إمارة «ماميقونيان» الأرمنية، وقبيلة «بكران» الكردية، كانت من إمارة «باقرادونيق» الأرمنية، وقبيلة «ريشقون» الكردية كانت من إمارة «روشتونيق» الأرمنية. والمتأمل في توافق الأسماء لا يرى مناصا من التسليم بصحة ما رواه التاريخ.
ولم تزل الأضغان تتزايد بين هذه القبائل وأخواتها الأرمنية؛ حتى أدت إلى التقاضي إلى السلاح. وإذ لم يكن عند الأكراد ما عندهم اليوم من السلاح الجيد والعدة الوافية، كانوا يهزمون أعداءهم تارة وينهزمون أمامهم تارة أخرى، ولكن عقلاء الأرمن أوجسوا من دوام هذه المعارك شرا، فأحبوا أن يحلوا الوفاق محل الشقاق، وأن يستعيضوا بالاتحاد عن الخلاف، وأول من انتبه منهم لهذا الرأي الصواب هو البطريرك الشهير «نرسيس». وبين سنة 1878 وسنة 1879 قام وفد من بيكوات الأكراد يريد القدوم إلى الآستانة للمذاكرة مع البطريرك في هذا الباب، فلما أحس بذلك عبد الحميد أكمن للبيكوات من اغتالهم في طريقهم وأحل بهم الردى، وهكذا خابت آمال «نرسيس» الحكيم.
ثم عن لعبد الحميد أن يتخذ سذاجة الأكراد وعداوتهم للأرمن ذريعة للإيقاع بالأرمن، وليجعل للرعية ما يصرفها عن الاشتغال بأعماله، ويستزيد لنفسه قوة يركن إليها عند الفزع الأكبر؛ فاستحدث الآلايات «الحميدية» من أخلاط وزمر؛ فمنها الكردية وهي الأكثر، ومنها العربية، ومنها الجركسية، وجهزهم بالسلاح الجديد وأمدهم بالميرة وكل ما يحتاجون إليه جما وافرا، وحين فاز الأكراد بهذه الأهبات وباتوا مدججين سلاحا والأرمن معازيل، رجحت كفة الأكراد في الضراب وخفت كفة الأرمن، وعليهم دارت الدائرة. هذا ما يتعلق بالأرمن مع الأكراد.
ولكن يجب أيضا النظر إلى المذابح الأرمنية من جهة أخرى.
الأرمن كابدوا من ظلم المسلمين والحكومة المستبدة، لا سيما في طريق بر الأناضولي، ما لا تصبر عليه القلوب، وحملوا من الضيم ما تكل عنه المتون. ولكنهم أبناء الشرق، وأبناء الشرق نفوسهم أبية، فنشطوا إلى العمل في جد متواصل طلبا لما يستخلصهم من إذلال إخوانهم إياهم، فما وجدوا سبيلا هو أقرب إلى المراد وأنفذ إلى النجاة من طلب العلم والصناعة، والاستفادة من معجزات العصر الجديد؛ فكان منهم المهاجرون إلى أقاصي البلاد، والمتزاحمون على أبواب المكاتب، والمتنافسون في تشييد مكاتب أرمنية. وما برحوا يتراكضون إلى الاستنارة بأنوار المعرفة حتى توافوا إلى مشرق نورها ومطلع نيراتها، وهم كلما زادوا توغلا في العلم زادوا معرفة بأساليب الحياة، فغيروا ما رأوه غير صالح من قديم العادة واستبقوا ما كان صالحا، فما مضت أعوام قلائل على نهضتهم هذه إلا برزوا على مواطنيهم من المسلمين. أما المسلمون فلم يريدوا النزوع عن ميراث السلف إلا قليلهم، وعدوا الاستفادة من علوم الغرب واقتفاءه في ترقيه شائنا لكرامة الدين. وعند التفاضل ظهر فرق الأمتين وأحرز الأرمن قصب السبق، فكان هذا داعيا إلى حسد المسلمين لهم وامتعاضهم منهم. والأرمن عرفوا حد ما عليهم للحكومة وما لهم عليها؛ فرضوا أن يهبوها حقها وأن يطالبوها بحقهم، وكبر هذا على الحكومة لأنها كانت لا تحب النصفة، وكبر على المسلمين لأنهم لم يكونوا يعلمون أن للأرمن حقا على الحكومة، وهم يعلمون أن الحق لا يكون إلا للمسلمين دون سواهم. نعم، كان في جماعات المسلمين رجال رزقوا العلم وأشربوا حب الوطن اعترفوا لإخوانهم المسيحيين بالحق، وأرادوا إنصافهم، وودوا مشاركتهم في مطالبهم. غير أن قلة العدد خذلتهم في مناوأة الحكومة والسلطان الظالم، وظلوا في أعين الجهلاء بمنزلة الأعداء.
وكانت بمدينة «وان» شركة اسمها «مياتسيال أنكرجون»، ومعناها الشركة المتحدة. أسست لاستحضار ما تحتاجه المدارس الأرمنية من كتب ودفاتر وأقلام وقراطيس وغيرها من الأدوات المكتبية، وجعلت لهذه الشركة شعب في سائر الولايات العثمانية، ونصب لها مديرا رجل من جلة الفضلاء اسمه «مغرديج بورتقاليان أفندي». ولما رأى تخلي المسلمين عما يرمي إليه بنو جنسه، واستحكم اليأس من فؤاده وأفئدة من هم على شاكلته من نجباء الأرمن، أسس جمعية خفية في «وان» سماها «جمعية آرمناقان»، وذلك في سنة 1880، وجعل أساس مقصدها حماية الحقوق الأرمنية من الضياع. وفي سنة 1885 قبض عليه وعلى أحد رفاقه في سعيه؛ وهو البطريرك السابق المرحوم «خريميان» أفندي وأخذا إلى الآستانة، وكان وشى بهما البعض إلى السلطان. ولما لم يجدوا ما يرجح التهمة عليهما أخلوا سبيلهما، فسافر «بورتقاليان» أفندي إلى «مرسيليا»، وأصدر فيها جريدة باللغة الأرمنية سماها «أرمينيا». وهي لا تزال تنتشر إلى اليوم، وانتقل مركز الجمعية أيضا إلى «مرسيليا» وهو كائن هنالك إلى يومنا هذا.
وفي سنة 1885 حين كان البطريرك السابق «أورمانيان» مطرانا بأرضروم، أحست الحكومة المنقلبة أن قد أسست هنالك جمعية أرمنية اسمها «خنجاق»، فأخذت إلى الآستانة أناسا كثيرين لتستطلع منهم سر الجمعية وما يتعلق بوجودها، فلم تقف منها على عين ولا أثر، وسافر «أورمانيان» إلى الآستانة، وبقيت الحكومة بين الشك واليقين في التصديق بوجودها. وإنما أسست هذه الجمعية بباريس، وولي رئاستها رجل من رعايا الدولة الروسية اسمه «نظريك»، ثم جعل فرع تابع لها في أرضروم.
وقد ألفت بعد هذه جمعية «طروشا غيان» أو «طاشناقساغان» في «جنيف». وإذ كان أكثر أعضائها من الأرمن التابعين لروسيا، لم تكن محلا لثقة إخواننا من الأرمن العثمانيين. وهذه الجمعية تميل أيضا إلى مذهب الاشتراكية. وهناك جمعيات أخرى لا أعلم من أحوالها ما أوثره بالذكر، فلا أرى مندوحة للخوض في أعمالها.
الحرج يعلم الحيلة، وتوالي العقاب يستولد البغضاء ولو كان عدلا، فكيف به إذا كان ظلما، ودوام الإساءة يحول دون استعادة الصفاء. هذه ثلاث قضايا ضرورية فرغ العقلاء من التخالف فيها، لما حقت على إخواننا المظلومين عملت جمعياتهم بفحواها. وفي سنة 1890 قامت جمعية «خنجاق» بواقعة «قوم قبو»، وهي براعة الاستهلال في النهضة الأرمنية. وفي سنة 1896 قامت جمعية «طاشناقساغان» بواقعة البنك العثماني، كلتا الواقعتين وقعت في عاصمة الملك العثماني لتكون بمشهد من أعين سفراء الدول وبحضرة عبد الحميد. أرادت الجمعيتان الأرمنيتان أن تعلما حكومة الاستبداد أن الشعب الأرمني نفض عنه تراب الذل، وأنه يأبى الاستمرار في طاعة كلها تكلف، فجاءوا لسائر إخوانهم العثمانيين بمثال من النخوة كان يجب أن يحذوا على منواله. غير أنه لم يقر عينا بذلك سوى فريق من رجال الحرية أضجرهم الظلم. أما الباقون من المتعصبين والجهلاء ومن أسعدهم الاستبداد وعلت أقدارهم في دولته، فقد أغضبهم ذلك وأقبلوا بجموعهم يقتلون الأرمن، فكثرت المذابح وحمي الوطيس بين العنصرين المسلم والأرمني بعد أن كان الأمر بين الأرمن والحكومة، وذهب كثير منهم غدرا إذ لم يكونوا من جمعية من الجمعيات الثائرة ولا ممن شاركوهما في أمر من الأمور.
فلما وقع القتال بين هذين العنصرين العثمانيين زادا كلاهما بعدا عن صاحبه، ونبتت بينهما الإحن، فعلم الأرمن أن لن يكون مقام رغد في البلاد العثمانية، وعدوا أنفسهم غرباء فيها، فكان منهم المطالب بإحياء دولة «أرمينيا» ليعيشوا فيها منفردين، وكان منهم من يؤثر الصبر ليرى ما سيكون من عاقبة البغي، وكان منهم من يحب الهجرة إلى أمريكا وأوروبا تاركا وراءه وطنه وإخوانه، يأسا لا هجرانا، وفرارا لا تحولا؛ فأدى ذلك وما تلاه من تعمم القتل والسبي فيمن هم بالأناضولي من الأرمن إلى توسط الدول الأوروبية، وطلبها من الحكومة المستبدة كف أذاها عن المسيحيين وإنفاذ ما تعهدت به للدول من الإصلاحات، فلم يجد كل ذلك نفعا. وجملة ما احتال به عبد الحميد على الحكومات المتمدينة حتى خدعها تنصيبه لبعض ولاة الأناضولي معاونين من مسيحيين ومسلمين، وفتحه باب الهجرة لمن يريد «ترك التابعية» من الأرمن؛ وهو أمر يراد به ظاهره دون حقيقته، فكم رأيت جماعة من الأرمن يطرقون أبواب الحكومة طالبين الإذن بالسفر إلى أمريكا، فيطالبهم رجال الحكومة بما يكون عليهم من جزية ومال. فإذا فعلوا ذلك كلفوهم إثبات براءتهم مما عساه يكون صدر عليهم من حكم وأعيق عن الإنفاذ أو لم يكن انتهى من المحاكم. فإذا كان هذا طالبوهم بضمان على ألا يعودوا ثانية إلى الأقطار العثمانية. فإذا جاءوا بذاك الضمان أمروهم ألا يدعوا وراءهم مالا ولا عقارا ولا أهل قرابة، وأن يدعوا في دائرة البوليس صورهم الفطوغرافية ليعرفوهم بها إذا عادوا. وبعد هذا العذاب الطويل يسمعون من وقاحة المأمورين وشتمهم وانتهارهم ما تندى له الجباه، ثم لا سبيل إلى إنجاز شيء مما سبق ذكره إلا إذا جاء المهاجرون بالدراهم وبذروا في الحباء تبذيرا.
Halaman tidak diketahui